وهذا الجواب المفحم لا أراه إلا لاحقًا بك أنت الآخر! ومعذرة يا أخي! فمقام الصحيحين عند من يعرف قدرهما كبير للغاية.
قلتُ: إبراهيم بن أبي يحيى كذاب يضع الحديث، وقد جعلَ ابنُ المدينيّ حديثَ ابن جريج هذا مأخوذاً عنه، وأدخله ابن القيم في جملة الأحاديث الموضوعة. وهو مخالفٌ لصريح القرآن ومخالفٌ للإسرائيليات، فلا هو مِن كلامه صلّى الله عليه وسلَّم ولا مِن كلام نَقَلة الإسرائيليات، فهو موضوع لا أصل له. أنا أرى هذا وأنتَ لا ترى هذا، فما المشكلة؟ الحديثُ لا يصحّ على كُلٍّ.
التحقيق: أن إبراهيم هالك لا يساوي فلسًا! أما رميه بالوضع والتوليد ففيه نظر لا يخفى!
وأنت لا تستطيع أن تجزم بأن ابن جريج سمعه منه! لا طاقة بهذا الأمر البتة! اللهم إلا بالمجازفة وحدها! وإنما عمدتك في هذا هو أبو الحسن الحافظ؟ وأبو الحسن لم يجزم بذلك أصلا! وإنما قال: (مَا أَرَى إِسْمَاعِيلَ بْنَ أُمَيَّةَ أَخَذَ هَذَا إِلاَّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي يَحْيَى) وهذا من باب غلبة الظن عندهم، ولو كان الأمر عنده على اليقين لقال: (لم يسمع إسماعيل بن أمية هذا الحديث من فلان، وإنما أخذه من ابن أبي يحيى) كما هي عبارتهم فيما تيقنوا به من علل الأخبار. وأبو الحسن يلزق ذلك بإسماعيل، وأنت تأبى إلا أن تركِّبه على أكتاف ابن جريج ظلما وعدوانًا!
ثم مع اعتراف أبي الحسن بذلك: ما تقدم على أن يقول: (هو حديث موضوع لا أصل له) كما تجرَّأت أنت عليه! فيا سبحان الله يحجم ابن المديني عن وصف الحديث بالتوليد! مع كونك تابعًا له في إعلاله، ثم لا تحجم أنت عن ذلك؟ فالله المستعان.
أما قولك: (وهو مخالفٌ لصريح القرآن)! فهذا في الحقيقة هو الدافع وراء جزْمِك بوضْع الحديث البتة! شئتَ ذلك أم أبيتَه! وهل لو لم يكن بيدك تعليل ابن المديني أو البخاري له = أكنتَ تراك ترتدع عن إعلال هذا الحديث الثابت في أصح الكتب على وجه البسيطة؟! لا والله! ما كنتُ أراك ترتدع! وإنما كان يكفيك مخالفته للقرآن - في وجهة نظرك - أن تحكم عليه بالبطلان من أوسع الأبواب! غير مكترث بتصحيح مسلم وجماعة من الحفاظ له! أما كفى المغامرة بالمغامرين فيما يمس لباب الدين؟
وأنا أقوله لك مرة واحدة: لو لم يكن البخاري وصاحبه تكلما في هذا الحديث! لكان كلام المتأخرين في إعلاله عبثًا لا يناهض تصحيح من صححه من الأئمة المتقدمين؟ ولكان لنا معك دور آخر مثل الذي رأيته منا في حديث الجساسة الثابت رغم محاولاتك المستميتة في النيل منه أصلا وموضوعًا!
وأما قولك إنّ في كلامي عن تدليس ابن جريج مغالطات لا تطاق، فأرجو أن توضّحها لي وتُوقفني على خطئي مشكوراً. وكذا في ادّعائي الانقطاع بين إسماعيل بن أمية وأيوب بن خالد، وبين أيوب بن خالد وعبد الله بن رافع.
قد أراك أكثرتَ الكلام حول تدليس ابن جريج، ثم خرجتَ منه بقولك:
فتبيَّن لك أمور ثلاثة:
(1) أن ابن جريج كان يدلّس في الصيغ ويقول في الإجازة و الوجادة "أخبرني" موهماً السماع. فما لم يُصرّح فيه بسماعه من شيخه، فليس بشيء.
(2) أنه يدلّس عن الكذابين والهلكى فكان يأخذ عن كل أحد، حتى قال فيه الإمام مالك (تهذيب الكمال 18/ 349): ((كان ابن جريج حاطب ليل)). اهـ
(3) أنه معروف بالرواية عن إبراهيم بن أبي يحيى.
فانجلى لك آفة هذا الحديث وأن ابن جريج دلّسه عن إبراهيم بن أبي يحيى، إذ الحديث من موضوعاته.
فخالفتَ بقولك الأخير ما احتمله ابن المديني من كون إسماعيل هو الذي أخذه من ابن أبي يحيى وليس ابن جريج! لكنك عدلتَ عن إسماعيل لكونك لم تجد فيه من المغامز ما وجدت في ابن جريج؟
ونحن نوافقك على النتيجة الثانية والثالثة بشأن ابن جريج، ونخالفك وغيرك في النتيجة الأولى! لأن تدليس الصيغ عند ابن جريج لا يضر بحديثه إن شاء الله، لأن غايته أن يكون إجازة ومناولة وليس بسماع، وجمهور المحدثين على جواز العمل بالإجازة والمناولة أيها الناقد البصير! وإنما نقم القطان على ابن جريج هذا الضرب من التدليس، لكونه خلاف عمل ثقات النقلة الذين أدركهم وتحمل عنهم، وقد كان يحيى يأخذ بالتشديد في هذا الفن بما لا يأخذ به سواه من النقاد.
¥