و بعد أن تزوج النبي صلى الله عليه وسلم من زينب رضي الله عنها، أثار هذا الزواج أحاديث همز و لمز و أقاويل كثيرة من قبل المشركين والمنافقين، فقد قالوا: تزوج محمد حليلة ابنه زيد بعد أن طلقها، كما وأن للمستشرقين و من شايعهم في العصر الحاضر، أحاديث في هذا الموضوع، فاتخذوا من هذه الحادثة ذريعة للطعن في رسول الله صلى الله عليه و سلم.
والذي أريد أن أتحدث عنه اليوم هو الرد على هؤلاء المستشرقين الذين اتخذوا من هذه القضية مدخلاً للطعن في نبي الله صلى الله عليه وسلم، كما و أنهم تناولوا زواجه صلى الله عليه وسلم بهذا العدد، فجعلوا منه مادة للنيل منه صلى الله عليه وسلم، و وصفوه بأشياء ينبو عنها القلم.
و لما كان هذا الأمر من الخطورة بمكان لتعلقه بأشرف خلق الله على الإطلاق - و كان كل من يطلق لسانه في هذا الصدد يقول: لسنا نبتدع شيئاً، فها هي كتب التفسير و كتب السير تحكي ذلك -، لذا سأقوم الآن بعرض تلك الروايات التي اعتمدوا عليها رواية رواية، متبعاً كل رواية منها ببيان ما وجّه لأسانيدها من نقد، ثم أتبع ذلك بنقدها جميعاً من جهة متونها، و موقف الأئمة المحققين من هذه الروايات.
يقول الله تعالى {وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله، و تخفي في نفسك ما الله مبديه، و تخشى الناس والله أحق أن تخشاه، فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها لي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطراً وكان أمر الله مفعولاً} [الأحزاب/37].
إن السبب في طلاق زيد لزينب ومن ثم زواج النبي صلى الله عليه وسلم منها؛ هو ما كان بين زيد و بين زينب من خلافات، و أنه لم يكن بينهما وئام يؤمل معه أن تبقى الحياة الزوجية بينهما، فطلقها بمحض اختياره و رغبته، و كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهاه عن ذلك، و قد كان الله عز وجل قد أعلم نبيه صلى الله عليه وسلم أن زيداً سيطلق زينب، و أنه ستكون زوجة له، و أنه صلى الله عليه وسلم كان يخفي هذا و يخشى من مقولة الناس، أنه تزوج مطلقة من كان يدعى إليه، فعاتبه ربه على ذلك. انظر: جامع البيان للطبري (22/ 11) و تفسير القرآن العظيم لابن كثير (3/ 489)، و انظر البخاري (برقم 4787).
خلاصة ما جاء في كتب التفسير والتي استدل بها المستشرقون أن هناك سبباً آخر لطلاق زينب، هو أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى زينب فجأة و هي في ثياب المنزل فأعجبته، و وقع في قلبه حبها، فتكلم بكلام يفهم منه ذلك، إذ سمعه زيد فبادر إلى طلاقها تحقيقاً لرغبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، و أن زيداً شاوره في طلاقها، و كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهاه عن ذلك، لكن في قلبه ضد هذا، و أنه كان راغباً في طلاق زيد لها ليتزوجها، و فوق ذلك فقد أقر الله رسوله على ما فعل، بل عاتبه لِمَ يخفي هذا والله سيبديه.
و رغم شناعة ما جاء في هذه الروايات، و هذا الفهم للآية الكريمة التي تتحدث عن طلاق زيد لزينب و زواج النبي صلى الله عليه وسلم بها، إلا أنه قد جاز على أئمة فضلاء، ففسروا به الآية الكريمة، وأثبتوا ذلك صراحة في كتبهم وتفاسيرهم.
ومن هؤلاء الأئمة:
ابن جرير الطبري في كتابه جامع البيان (22/ 12)، عند تفسيره الآية ولم يذكر غيره.
و منهم: الرازي في تفسيره (13/ 184)، حيث ذكر نحواً من كلام ابن جرير.
ومنهم: ابن القيم في كتابه الجواب الكافي (ص 247)، حيث ذكره في معرض سوقه لحكايات في عشق السلف الكرام والأئمة الأعلام.
ومنهم: الزمخشري في تفسيره (3/ 262).
وأحسن ما يعتذر به عن هؤلاء الأئمة وأتباعهم ممن ذهب يفسر الآية بهذا، أنهم عدوا هذا منه صلى الله عليه وسلم من عوارض البشرية، كالغضب والنسيان، و لكنهم لم يستحضروا شناعة هذا التفسير للآية، و نسبة ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، و لم يدققوا في الروايات التي وصلتهم من جهة أسانيدها و متونها كما فعل غيرهم، ونحن نسأل الله أن يثيبهم على اجتهادهم وأن يغفر لهم.
والآن إلى نقد الروايات ..
الرواية الأولى:
¥