قلتُ: بل قد خولف ابن مسعدة في سنده عن قتادة أيضًا!! خالفه سعيد بن أبي عروبة - الإمام المقدَّم في قتادة -!! فرواه عنه فقال: (عن قتادة: قال: أوحي الله - تبارك وتعالي- إلي نبي من أنبياء بني إسرائيل - عليهم السلام-: إن كل بني آدم خطاؤون، وخير الخطائين التوابون)! فجعله من قول قتادة رواية عن بعض أنبياء بني إسرائيل!! هكذا أخرجه أحمد في الزهد [رقم /498 طبعة دار ابن رجب]، من طريق عبد الوهاب الخفاف عن سعيد به
.....
قلت: وهذا إسناد مستقيم؛ وعبد الوهاب ممن سمع منه ابن أبي عروبة قديمًا كما قاله أحمد وغيره؛ وهذا الوجه هو المحفوظ عن قتادة بلا تردد!!
والخبر: معدود من (الإسرائيليات) كما ترى!! فانظر كيف شيَّد ابنُ مسعدة رُكْن الحديث بعد أن كان متزلزلاً! وكيف أقام بنيانه بعد أن كان متضعضعًا! فقال: (عن قتادة عن أنس به مرفوعًا؟!).
وقد نقل أبو الفيض الزبيدي في (إتحاف السادة المتقين) (8/ 596): عن أبي زرعة بن العراقي أنه قال بعد أن ساق تلك الرواية: (حديث فيه ضعف)
ثم قال الزبيدي: (فكأنه تبع فيه والده) يعني: أبا الفضل العراقي، حيث أعله بـ: (علي بن مسعدة) في: (تخريج الإحياء) كما مضى.
وقد وجدتُ للحديث: طريقًا آخر عن أنس به مرفوعًا بجملة: (كل ابن آدم خطاء
... ) فقط!! أخرجه أبو نعيم في الحلية [333/ 6]، ولكن بسند هالك لا يُفرح به!! فيه سليمان بن عيسي صاحب كتاب: (العقل) لكن لم يكن لمؤلفه عقل أصلاً!! وهو الذي يقول عنه أبو حاتم والجوزجاني: (كذاب)!! ويقول ابن عدي: (يضع الحديث!!) راجع ترجمته من اللسان [99/ 3].
وقد صح هذا الحديث موقوفًا من قول ابن عمر بلفظ: (كل ابن آخذ خطاء إلا ما رحم الله) أخرجه ابن المبارك في الزهد [رقم 299]، والبيهقي في الشعب [1/ رقم 273]، وسنده صحيح حجة.
ولا يصح في هذا الباب حديث مرفوع قط!! بل في متن حديث أنس نكارة أفصح عنها محدث الزمان محمد وعمرو عبد اللطيف -حفظه الله- في آخر رسالته في تخريج حديث: (ما من عبد مؤمن إلا وله ذنب يعتاده الفينة بعد الفينة
... ) [ص 184]، فَقِفْ علي كلامه هناك. والله يتولاني ويتولاك
. [تنبيه] هنا شاردة غريبة لا بأس إن أشرنا إليها فنقول: قد نقل المناوي في الفيض [16/ 5]، عن ابن القطان الفاسي أنه انتصر لتصحيح الحاكم لحديث أنس!! وقال -يعني ابن القطان-: (ابن مسعدة صالح الحديث!! وغرابته إنما هي فيما انفرد به عن قتادة!!).
قلت: وهذا عجب!! وكيف راق له موافقه الحاكم وقد رواه ابن مسعدة عن قتادة في جميع طرقه!؟ فكأن ابن القطان لم يستحضر إسناد الحديث!! بل لو عكس مقالته لكان قوله مقبولاً علي مضض!! فقد صح عن ابن معين أنه مشي ابن مسعدة في حدث البصريين خاصة!! وقتادة بصري معروف؛ فكأن عبارة ابن معين قد انقلبت علي ابن القطان!! أو يكون المناوي قد أساء
التصرف في عبارة ابن القطان!! فالله المستعان.
ثم وقفتُ على عبارة ابن القطان في بيان الوهم والإيهام [5/ 414] فإذا هو قد ساق الحديث، ونقل عن الترمذي أنه قال: (غريب) ثم قال ابن القطان: (وَهُوَ عِنْدِي صَحِيح؛ فَإِن إِسْنَاده - يعني إسناد الترمذي - هُوَ هَذَا: حَدثنَا أَحْمد بن منيع، حَدثنَا زيد بن الْحباب، حَدثنَا عَليّ بن مسْعدَة الْبَاهِلِيّ، حَدثنَا قَتَادَة، عَن أنس
....
وَعلي بن مسْعدَة صَالح الحَدِيث، قَالَه ابْن معِين، وغرابته: هِيَ أَن عَليّ ابْن مسْعدَة، ينْفَرد بِهِ عَن قَتَادَة.)
قلتُ: فبان بهذا: أن المناوي قد أساء التصرف في نقل عبارة أبي الحسن الفاسي؟ وهو يفعل ذلك كثيرا في نقله لكلام أئمة هذا الشان في الجرح والتعديل، والنقد والتعليل! بحيث أضرَّ بنفسه في هذا الصدد جدا! وكشف بنفسه عن عجره وبجره في ذلك الفن اللطيف! ولم تكن أكثر حملات أبي الفيض الغماري عليه في كتابه: (المداوي) إلا في عدم تحري المناوي لما ينقله عن هذا وذاك في التصحيح والتعليل، والجرح والتعديل، مع سوء الفهم في تفسير ما يرمي إليه النقاد بكلامهم في المتون والأسانيد والنَّقَلَة!
فالحاصل: أن المناوي ليس ممن يعتمد عليه في نقل الأقوال، ولا في سرد ما يحكيه من القيل والقال! بل يجب الكشف عن تلك المصادر التي يصرح بالنقل منها، أو يتكلف تفسير ما يحكيه عنها! وغفر الله لنا وله وسائر المسلمين.
انتهى بحروفه من كتاب: (رحمات الملأ العلى بتخريج مسند أبي يعلى) [رقم / 2922]
وكتبه: أبو المظفر سعيد بن محمد السناري القاهري الأثيم!