تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ولم يقنع بأخذ هذه القراءات عن أستاذه، وكتابتها وتصحيحها بالقراءة عليه فحسب، بل طلب منه الإذن بروايتها كلها عنه. فأجابه إلى مطلبه. وهذا يعني أنه وثق به، وعرف تمكّنه في العلم والرواية. وهذه هي الإجازة في العرف القديم. وإجازة الشيخ طالب العلم في الرواية عنه تعادل في القديم مرتبة الشهادة العالية التي ينالها الطالب الباحث في نهاية المطاف في أيامنا الحاضرة، مثل نيل شهادة الدكتوراه بإشراف أستاذ عالم معروف.

قال في شأن مَناله الإجازة:

فلما وقع الفراغ من التعليق وتصحيحه، وقراءته عليه، قلت له: أتأذن لي أن أروي عنك هذه كلَّها؟ فقال لي: نعم. فلم أقنع باستئذانه دفعة واحدة، حتى عاودته مراراً كثيرة في مجالس عِدّة. كلّ دفعة أقول له: أتأذن لي أن أروي عنك هذه، وأُقْرِئَ بها مَنْ شئت؟ فيقول لي: نعم. ثم مكثت دهراً، بعد التعليق، أعرض عليه القرآن تلاوة، قراءة بعد قراءة، ورواية بعد أخرى ([64]).

ولم يكتف بما اكتسب من العلم، والحصول على الإجازة العلمية من الشيخ بالإقراء والرواية عنه، بل زاد فالتمس منه أن يعرّفه شيوخه الذين تلقّى منهم قراءاته، فأجابه إلى هذا الملْتَمَس. ولا نرى هذه الموافقة إلا دليلاً على ثقته بعلمه وأمنه على مبلغ أمانته فيه. قال في بيان ذلك:

ثم قلت له: أفلا تعرّفني شيوخك الذين أخذتها عنهم؟ فدفع إلينا صحيفة شحنها أسماء أستاذِيه وشيوخه، وهم جِلّة أصحاب أبي بكر ابن مجاهد، والنقّاش، والفضل بن شاذان الرازي، والمعدّل وهو الذي يباهي به البصريون ويعظمونه. فذكر في الصحيفة الأسانيد بطولها، مرفوعة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم. ([65]).

® ® ®

انتهت رحلة العلم. وفي زمن لا نعرفه، ولم يذكره هو نفسه، عاد الإمام العماني إلى مستقرّه في وطنه عُمَان، وقد استوى على عرش العلم شيخاً كبيراً بارعاً في علم القراءات، وإماماً محيطاً بأصوله إحاطة تامة، ضليعاً وعارفاً قراءات الأئمة واتجاهاتهم ووجوه اختلافاتهم معرفة كاملة.

ويبدو أن استقراره بمستقرّه في عُمَانَ لم يدم طويلاً، إذ نراه قد عزم على الرحيل ثانياً سنة 404 هـ، لسبب لم يبينه، وترك وراءه صحيفة شيخه أبي الحسن الكريزي البصري، وتعليقة قراءاته عنه، خشية عليهما من الضياع، وأملاً في العودة القريبة إلى الوطن. وفي هذه الرحلة الثانية أملى "الكتاب الأوسط في علم القراءات"، وهو أول كتاب وضعه فيما نرى. وكان ذلك حين وصل في ترحاله إلى إقليم سجستان وحلّ فيه.

قال في بيان عودته إلى عُمان من رحلة العلم، ورحيله الثاني عن الوطن، وتأليف الكتاب:

فلما عدت إلى مستقري بعُمان، ثم عزمت على الحركة ثانياً، سنة أربع وأربعمئة، أشفقت على تلك الصحيفة والتعليق، فخلّفتهما هناك إشفاقاً عليهما، وطمعاً في العودة إلى الوطن. فلم يتسهّل إل هذه السنة، وهي سنة ثلاثَ عشرة وأربعمئة، فسئلت فيها إملاء هذا الكتاب، فأمليته مستعيناً بالله تعالى، راجياً توفيقه ([66]).

ولا ندري هل عاد الإمام العماني إلى وطنه من رحلته الثانية، بعد تأليف هذا الكتاب، أو ظل بعيداً في الاغتراب؛ ولا ندري شيئاً من أخباره وأحواله وأعماله بعد هذه السنة التي ذكرها سوى تأليفه، في زمن لا نعرفه، كتابه الكبير الشهير "المرشد في الوقف والابتداء في قراءة آيات القرآن وبيان أحكامها وعِلَلها والاحتجاج لها"، وهو أكبر كتاب معروف في بابه، أثنى عليه ثناء حسناً شمس الدين أبو الخير الجَزَرِي في كتابه "غاية النهاية في طبقات القراء" كما عرفنا آنفاً غير بعيد.

وقد أشار الإمام العُماني نفسه، في مواضع عديدة من "الكتاب الأوسط في علم القراءات"، إلى عزمه على تأليف كتاب آخر في علم القراءات، يكون أكبر وأشمل منه وأكثر تفصيلاً، ويسميه "الكتاب الشامل". ولا ندري هل مدّ الله تعالى في عمره، ووفّقه إلى إنجاز هذا العزم، والوفاء بإتمام تأليف هذا الكتاب الموعود. قال في بيان سبب تسمية كتابه الأول بـ"الأوسط"، وفي شروعه بوضع الكتاب الثاني الأوسع من الأول:

وسمّيته: "الكتاب الأوسط في علم القراءات"، إذ قد شرعت في وضع كتاب هو أتمُّ منه، يرتفع المراد منه مع مرور الأوقات، ومساعدة الأيام. وبالله التوفيق ([67]).

® ® ®

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير