فكأنه لم يستحضر ذلك حينما شرح الحديث في المكان الأول.
ولِمَا ذكرتُ من الجهالة؛ جزم الحافظُ بضعفه، فقال في مكان آخر من
" الدراية " (2/ 63):
" أخرجه الترمذي والحاكم بإسناد ضعيف ".
وقد أفصح عن علته في " التلخيص الحبير "، فقال (1/ 186) - بعد أن
ذكر إسناده، وإعلال الترمذي إياه بالانقطاع -:
" وسعيد؛ مجهول، وقد ذكره ابن حبان في " الضعفاء " فقال: (سعيد بن
عبد الرحمن بن عبد الله). ورواه الحاكم من هذا الوجه، فجعل مكانه: (سعيد
ابن عبد الرحمن الجمحي)! وهو من أغلاطه الفاحشة ".
قلت: ولم يبين الحافظ سبب ذلك، ولا بد لي من بيانه، أو يعود إلى
أمرين:
الأول - وهو الأهم -: أن الحاكم رواه من طريق أحمد وابنه كما تقدم، وهما
روياه عن شيخهما هارون بن معروف - وهو ثقة من رجال الشيخين - عن ابن وهب
عن سعيد بن عبد الله الجهني، هكذا على الصواب، فرواية الحاكم عن أحمد
خلافه وخلاف رواية ابنه عنه يكون خطأ بلا شك.
والآخر: أنه مخالف لكل المتابعين لهارون في الطرق المشار إليها في أول
التخريج: قتيبة بن سعيد: عند البخاري والترمذي، وحرملة بن يحيى: عند ابن
ماجه، وعيسى بن أحمد العسقلاني: عند الخطيب. وكلهم ثقات، فمن
المستحيل - عادة - أن يخطئ هؤلاء والحفاظ الذين رووه عنه أيضاً، والحاكم هو
المصيب، كما هو ظاهر لكل لبيب!
وهذا كله يرد على رواية ابن حبان أيضاً. فإنه قال: حدثناه ابن خزيمة: ثنا
محمد بن يحيى الأهلي قال: ثنا هارون ين معروف: ثنا ابن وهب عن سعيد بن
عبد الرحمن الجمحي. . . بلى آخر الإسناد.
هكذا ساقه في ترجمة (سعيد بن عبد الرحمن بن عبد الله الجمحي. . .).
ولهذا؛ كنت أود للحافظ أن يقرن نسبته هذه (الجمحي) مع اسمه؛ حتى لا
يتبادر إلى ذهن القارئ أن الحاكم تفرد بذلك الغلط الفاحش، وأن غاية ما عند ابن
حبان أنه سمى جده عبد الله، وأباه عبد الرحمن: فيقول قائل: الخطب في مثل
هذا سهل؛ فإن قال في نسبه: (سعيد بن عيد الله) يكون قد نسبه إلى
جده، وأما أبوه؛ فهو عبد الرحمن؛ كما وقع عند الحاكم وكذا ابن حبان - فلكيلا
يقول قائل هذا؛ قلت: كنت أود أن يقرن مع اسمه نسبته (الجمحي) -؛ لأنها
هي التي تكشف عن الحقيقة، وأنه غير سعيد بن عبد الله الجهني.
وبالجملة؛ فخطأ ابن حبان عندي أفحش من خطأ الحاكم، وذلك؛ لأنه زاد
عليه أنه ذكر الحديث في ترجمة (الجمحي) مؤكداً الخطأ الذي ورد في
إسناده للحديث! ثم إنه زاد الطين بِلَّةً - كما يقال -، بإساءته
القول في المترجم فقال: «يروي عن عبيد الله بن عمرو وغيره من الثقات
أشياء موضوعة يتخايل إلى من يسمعها أنه كان المتعمد لها»!
مع أن الجمحي هذا معروف؛ وثقه غير واحد، وأخرج له مسلم، ولذلك؛ قال
الذهبي بعد أن نقل توثيقه عن ابن معين وغيره:
«وأما ابن حبان؛ فإنه خساف قصاب»!
والخلاصة: أن علة الحديث جهالة سعيد بن عبد الله الجهني، وأنه من
جعله سعيد بن عبد الرحمن الجمحي؛ فقد وهم! ولو أن الحديث كان من
روايته؛ لكان حسناً في أسوأ أحواله. والله أعلم.
(تنبيه): جاء في «شرح الإحياء» للزبيدي ما نصه:
«قال الذهبي: وسعيد مجهول، وقد ذكره ابن حبان في الضعفاء. ا هـ».
كذا فيه! وأظنه وهم في قوله: «الذهبي»؛ فإن هذا إنما هو قول
الحافظ كما تقدم. على أن هذا النقل فيه اختصار مخل؛ لأنه يوهم أن
الذي ذكره ابن حبان في «الضعفاء» هو سعيد الجهني، والواقع أنه سعيد
الجمحي، وأن الجهني إنما أورده في «الثقات»؛ كما تقدم بيانه.