تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

قلت: هذا التأويل باطل لوجوه كثيرة منها: أن الأعمى إنما طلب منه صلى الله عليه و سلم أن يدعو له لا أن يعلمه دعاء فإذا كان قوله صلى الله عليه و سلم له: (وإن شئت دعوت) جوابا على طلبه تعين أنه الدعاء له ولا بد وهذا المعنى هو الذي يتفق مع آخر الحديث ولذلك رأينا الغماري لم يتعرض لتفسير قوله في آخره: (اللهم فشفعه في وشفعني فيه) لأنه صريح في أن التوسل كان بدعائه صلى الله عليه و سلم كما بيناه فيما سلف

ثم قال: (ثم لو سلمنا أن النبي صلى الله عليه و سلم دعا للضرير فذلك لا يمنع من تعميم الحديث في غيره) قلت: وهذه مغالطة مكشوفة لأنه لا أحد ينكر تعميم الحديث في غير الأعمى في حالة دعائه صلى الله عليه و سلم لغيره ولكن لما كان الدعاء منه صلى الله عليه و سلم بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى غير معلوم بالنسبة للمتوسلين في شتى الحوائج والرغبات وكانوا هم أنفسهم لا يتوسلون بدعائه صلى الله عليه و سلم بعد وفاته لذلك اختلف الحكم وكان هذا التسليم من الغماري حجة عليه

رابعا: أن في الدعاء الذي علمه رسول الله صلى الله عليه و سلم إياه أن يقول: (اللهم فشفعه في) (1) وهذا يستحيل حمله على التوسل بذاته صلى الله عليه و سلم

(1) هذه الجملة هي عند أحمد أيضا والحاكم وغيرهما وإسنادها صحيح

[73]

أو جاهه أو حقه إذ أن المعنى: اللهم أقبل شفاعته صلى الله عليه و سلم في أي اقبل دعاءه في أن ترد علي بصري والشفاعة لغة الدعاء وهو المراد بالشفاعة الثابتة له صلى الله عليه و سلم ولغيره من الأنبياء والصالحين يوم القيامة وهذا يبين أن الشفاعة أخص من الدعاء إذ لا تكون إلا إذا كان هناك اثنان يطلبان أمرا فيكون أحدهما شفيعا للآخر بخلاف الطالب الواحد الذي لم يشفع غيره قال في (لسان العرب):

(الشفاعة كلام الشفيع للملك في حاجة يسألها لغيره والشافع الطالب لغيره يتشفع به إلى المطلوب يقال تشفعت بفلان إلى فلان فشفعني فيه)

فثبت بهذا الوجه أيضا أن توسل الأعمى إنما كان بدعائه صلى الله عليه و سلم لا بذاته

خامسا: إن مما علم النبي صلى الله عليه و سلم الأعمى أن يقوله: (وشفعني فيه) (1) أي اقبل شفاعتي أي دعائي في أن تقبل شفاعته صلى الله عليه و سلم أي دعاءه في أن ترد علي بصري. هذا الذي لا يمكن أن يفهم من هذه الجملة سواه

(1) هذه الجملة صحت في الحديث أخرجها أحمد والحاكم وصححه ووافقه الذهبي وهي وحدها حجة قاطعة على أن حمل الحديث على التوسل بالذات باطل كما ذهب إليه بعض المؤلفين حديثا والظاهر أنهم علموا ذلك ولهذا لم يوردوا هذه الجملة مطلقا الأمر الذي يدل على مبلغ أمانتهم في النقل. وقريب من هذا أنهم أوردوا الجملة التي قبلها (اللهم فشفعه في) من الأدلة على التوسل بالذات وأما توضيح دلالتها على ذلك فمما لم يتفضلوا به على القراء ذلك لأن فاقد الشيء لا يعطيه

[74]

ولهذا ترى المخالفين يتجاهلونها ولا يتعرضون لها من قريب أو من بعيد لأنها تنسف بنيانهم من القواعد وتجتثه من الجذور وإذا سمعوها رأيتهم ينظرون إليك نظر المغشي عليه. ذلك أن شفاعة الرسول صلى الله عليه و سلم في الأعمى مفهومة ولكن شفاعة الأعمى في الرسول صلى الله عليه و سلم كيف تكون؟ لا جواب لذلك عندهم البتة ومما يدل على شعورهم بأن هذه الجملة تبطل تأويلاتهم أنك لا ترى واحدا منهم يستعملها فيقول في دعائه مثلا: اللهم شفع في نبيك وشفعني فيه

سادسا: إن هذا الحديث ذكره العلماء في معجزات النبي صلى الله عليه و سلم ودعائه المستجاب. وما أظهر الله ببركة دعائه من الخوارق والإبراء من العاهات فإنه بدعائه صلى الله عليه و سلم لهذا الأعمى أعاد الله عليه بصره ولذلك رواه المصنفون في (دلائل النبوة) كالبيهقي وغيره فهذا يدل على أن السر في شفاء الأعمى إنما هو دعاء النبي صلى الله عليه و سلم ويؤيده أنه لو كان السر هو في دعاء الأعمى وحده دون دعائه صلى الله عليه و سلم لكان كل من دعا به من العميان مخلصا إليه تعالى منيبا إليه قد عوفي بل على الأقل لعوفي واحد منهم وهذا ما لم يكن ولعله لا يكون أبدا

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير