وعهدي ببعض أبناء هذا الزمان: تضعيفهم لبعض الأسانيد الثابتة البتة، اتكاءً على أن في متونها ما يوجب النكارة في أذواقهم! مع كونهم غير مسبوقين في تلك الأحكام المتهوِّرة أصلا!
وأظن أن سلف هؤلاء في هذا الصنيع من المتأخرين: هو الحافظ العماد ابن كثير! فإنه كثيرا ما كان يذكر الحديث في (كتبه) بالإسناد النظيف، ثم يقول: (غريب جدًا، والأشبه أنه موقوف) ونحو ذلك من التخرُّص الذي لم يسبقه إليه أحد!! مع خواء يده عن برهان يؤيِّد دعواه سوى ما في متن الحديث من الغرابة أو النكارة في ذوقه وحده!!
وقد كنا تعقبناه في تخريجنا للحديث الماضي [برقم/3617/رحمات]، بشأن صنيعه هذا فقلنا هناك: (وهذا شيء لا نقبله إلا من متقدمي نقاد هذه الصنعة وحسب؛ لأن أصول الأحاديث كانت بأيديهم يطلعون عليها، وينتقون منها، ويميزون بين الخطأ والصواب فيها!! فإذا ما قال ابن المديني مثلاً: (هذا حديث خطأ!! والأشبه أنه مرسل) ولم يعارضه من هو مثله أو فوقه أو دونه ببرهان قائم؛ لزمنا قبول كلامه وإن لم نقف على العلة التي لأجلها حكم على الحديث بالخطأ، ورجَّح إرساله أو وقفه!!
أما سائر المتأخرين من الحفاظ ونَقَدة هذا الفن: فلا نقبل من أحدهم مثل هذا الإعلال دون حجة تقيم عوج كلامه، وتفصح عن مكنون مرامه.
فافهم هذا المسلك فإنه مهم للغاية؛ وكم كان ينقدح في صدري مثلما ينقدح في صدر ابن كثير من استغراب حديث موصول أرى أن الصواب فيه هو الإرسال أو الوقف!! ثم أحجم عن التفوِّه بذلك؛ لعدم استطاعتي إقامة البرهان عليه!!
وأقول لنفسي: قف يا هذا ولا تعْدُ طورك!! أتُراك ابن المديني حتى تتجشم التنفيس عما يجيش بين خلجات صدرك بما يكون وصمة عارٍ في جبينك أبد الدهر! وإنما حسبك اقتفاء آثار علوم ابن المديني دون أن تكون له رأسًا براس!! وإياك ومخادعة نفسك لك!! وقد جعل اللَّه لك مخرجًا في نقاش مثل البخاري!! ولكن بلسان غيرك من أقرانه ونظرائه في هذا الفن.
فإذا اختصم أبو حاتم وأحمد في تصحيح حديث أو تضعييفه؛ بعد أن ذكر كل واحد منها برهانه فيما يروم؛ فللمتأخر البصير: أن يُرجِّح بين القولين بما أداه إليه اجتهاده ومعرفته؛ لا أن يخطِّأ الرجلين جميعًا!! ثم يحْدِث لنفسه قولاً جديدًا في الحكم علي الحديث!! ولا يفعل هذا إلا كل مخدوع!! جاهل بمراتب أقدار المتقدمين من أحلاس هذا العلم. واللَّه المستعان لا رب سواه.).
وسيأتي المزيد من هذا: في تعقُّبنا على العماد ابن كثير في تضعييفه لحديث (عجوز بني إسرائيل) عند المؤلف [برقم/7254/رحمات].
وأعود فأقول: ويؤيد إعلال الإمام أحمد لمتابعة فضيل بن عمرو بكونه قد سمعه من طلحة، أن الحديث مشهور معروف من رواية طلحة بن يحيى عن عائشة، وقد أنكره عليه غير واحد من النقاد كما مضى سابقًا.
بل قال ابن رجب في (أهوال القبور): (وذكر العقيلي أنه لا يحفظ إلا من حديث طلحة).
ولفظ العقيلي في (الضعفاء): (وأوله لا يحفظ إلا من هذا الوجه). يعني قول عائشة في أول الحديث: (دُعيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة غلام من الأنصار ليصلى عليه، قلت يا رسول الله: طوبى له عصفور من عصافير الجنة قال يا عائشة أولا غير هذا؟!). هذا لفظ رواية العقيلي لأول الحديث قبل مقولته السالفة.
وبما مضى يتبين للناقد ضعف هذا الحديث رواية!! لكونه مما أنكر على طلحة بن يحيى كما مضى بيانه!! ولم تصح متابعة فضيل بن عمرو الفقيمي له كما سبق!!
ولم أتعرض هنا للكلام في هذا الحديث دراية! ولا لمخالفة أوله لصحاح الأخبار. ويكفي ما ذكرنا في تضعييفه من حيث الصناعة الحديثية.
[تنبيه مهم] قد تحرَّف (طلحة بن يحيى) عند الطيالسي [3/رقم/1679/طبعة التركي]، و [رقم/1574 /طبعة دار المعرفة]، إلى: (يحيى بن إسحاق!!) فظن بعضهم أن تلك متابعة ثانية لطلحة في هذا الحديث!! وليس من ذا شيء!! والله المستعان لا رب سواه.
انتهى بحروفه من: (رحمات الملأ الأعلى بتخريج مسند أبي يعلى) [رقم/4553/طبعة دار الحديث].
وكتبه الفقير العاثر: أبو المظفر سعيد بن محمد السنَّاري القاهري.
ـ[أبوالفداء المصري]ــــــــ[17 - 11 - 09, 10:38 م]ـ
هل الشيخ ابو المظفر هو صاحب كتاب رحمات الملأ العلى بتخريج مسند ابي يعلى؟
وان كان كذلك فلم طبعت في دار الحديث؟
ـ[أبو المظفر السِّنَّاري]ــــــــ[17 - 11 - 09, 10:57 م]ـ
هل الشيخ ابو المظفر هو صاحب كتاب رحمات الملأ العلى بتخريج مسند ابي يعلى؟
وان كان كذلك فلم طبعت في دار الحديث؟
نعم: أنا أخوك أبو المظفر صاحب (الرحمات) وهو لم يطبع بعد، وإنما هو قيد الطبع الآن.
ـ[أبو المظفر السِّنَّاري]ــــــــ[19 - 11 - 09, 08:23 م]ـ
[فائدة] قد حكى ابن الوزير إعلال بعض الحفاظ لهذا الحديث في: (العواصم والقواصم) ومختصره: (الروض الباسم).
وعبارته في الروض: (وحديث: عصفور من عصافير الجنّة، قد غمزه الحفّاظ).
¥