و منهج إبن خلدون صار أساس المنهج الغربي كله. و ذلك نجد ولَع الغربيين الشديد بمقدمته. و أجمع هؤلاء أن إبن خلدون هو المؤسس الحقيقي لما يسمى بعلم الاجتماع، ذلك العلم الذي لم يكتب عنه أحدٌ مثل ما فعل إبن خلدون، رغم أهميته البالغة في دراسة التاريخ. يقول عنه –مثلاً– المؤرخ الإنكليزي أرنولد توينبي في كتابه "دراسة التاريخ": «إن إبن خلدون ليبدو أكثر تألقاً و لمعاناً، إذا ما قيس بكثافة الظلام الذي خيّم على عصره، مع أنه في مقدمة تاريخه العام قد استوحى و صاغ فلسفةً للتاريخ، هي دون ريب أعظم عملٍ استوحاه و أبدعه عقلٌ من العقول، في أي عصرٍ و في أي مكان».
فلا شك أن هذا المنهج الغربي المأخوذ أصلاً من المسلمين هو ثمرة عقول مفكرين كبار، طوَّروه من خلال التجربة و الاستقراء، فأضاف اللاحق منهم على السابق حتى وصل إلى ما وصل إليه من تكامل و شمول و عمق. و لكن الفرق أن إبن خلدون استند –كمؤرّخ مسلم– في نقده إلى ثوابت قطعية كعدالة الصحابة مثلاً. لكن المشكلة هي في المستشرقين الذين لا يرتكزون في نقدهم لأيّ خلفية إسلامية. فترى المستشرق الروسي –مثلاً– يريد أن يفسّر التاريخ الإسلامي بمنطق شيوعي اشتراكي. بينما يحاول المستشرق الغربي تصوير تاريخنا المجيد بأنه مجرّد صراع مادي على السلطة. و أكثر هؤلاء ما أرادو إلا الطّعن في الإسلام نفسه، و تشويه صورته. و مما يؤسف له أن نجد الكثير من المسلمين ممّن انبهر بحضارتهم و طمَس الله على بصيرته، يحاكي كتاباتهم و يكرّرها تحت ما يدعي أنه منهجٌ و استقراءٌ علمي. و الحقيقة أن علم الاجتماع و التاريخ يناقض منهجهم كله في رد الصحيح المتواتر بشبهات ضعيفة لا أساس لها.
و من هنا فإن الجمع بين معطيات منهج المُحدِّثين و منهج النقد الغربي (الذي أسّسه إبن خلدون)، يعطي أمثل النتائج إذا حَكَمت الأخير معايير التصور الإسلامي. و هذا ما حاولت جاهداً أن أسلكه في هذا الكتاب. و هذا الكلام طبعاً عن التاريخ الإسلامي. أما عن التاريخ القديم كتاريخ قرطاجة فلا يمكن الاعتماد على علم الإسناد لانتفائه. فاعتمدت على ما تواتر و تطابق من الأخبار من المؤرخين الإغريق و الرومان الذين عاصرو ذلك التاريخ [16].
و من ضرورات المؤرّخ هو التجرّد من أيّ انحياز أو تعصب. و قد أوجب الله تبارك و تعالى على المسلمين العدل و لو مع الخصوم فقال] يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى [[17]. و لذلك يجب على المؤرّخ أن يسرُد حجج كلّ فريقٍ دون أن يغمِط كل ذي حقٍّ حقّه، لا سيّما في نزاعات الصحابة رضوان الله عليهم. لذلك قال عمر بن عبد العزيز: «إذا أتاك الخصم و قد فُقِئَت عينه، فلا تحكم له حتى يأتي خصمه. فلعلّه قد فُقِئَت عيناه جميعاً!». و كذلك فإن الحقّ لا يُعرف بالرجال. قال الحارث بن حوط لعلي: «أَتَظُنُّ أَنَّا نَظُنُّ طَلْحَةَ وَ الزُّبير كَانَ عَلَى بَاطِلٍ؟». فقال له: «يا حارث إنه مَلْبُوسٌ عليك: إِنَّ الحقَّ لاَ يُعْرَفُ بِالرِّجَالِ. إعْرِف الحق تَعرف رجاله» [18].
و قد جمعت في أول هذا الكتاب كل ما استنتجته مما أراه قواعد للمجتمعات البشرية، ثم أعقبت ذلك بأمثلة متنوعة تغطي كل ما قد تكلمت عنه. فبدأت بالتاريخ القديم لكني لم أتوسع به لعلمي بقلة اطلاع الناس عليه، فيعدمون الفائدة منه. ثم أتبعت ذلك بنظرة خاطفة على تأثير العصبية في التاريخ الإسلامي، مع توضيحي لبعض المواقف التاريخية التي طالما شوهت من قبل المستشرقين. ثم أتبعت ذلك بتطبيق لتلك القواعد على وضعنا المعاصر و على ما أراه قد يحصل في المستقبل إن شاء الله تعالى، و هو وليُّ التوفيق.
ـ[محمد الأمين]ــــــــ[10 - 04 - 02, 08:55 ص]ـ
الهوامش:
[1] (فاطر:44).
[2] (يونس:102).
[3] (الزمر:25).
[4] (النور:55).
[5] و لا يعني هذا أني التزمت حرفياً بتعريف إبن خلدون للعصبية و لا بتحليله للأحداث التاريخية كما سيظهر في هذا الكتاب.
[6] صحيح مسلم برقم (3440).
[7] تاريخ الطبري ـ المقدمة ص (13).
[8] إنظر "نظرة في كتاب الكامل لابن الأثير" للدكتور سليمان عودة.
[9] الكامل لابن الأثير (1/ 32).
[10] قال بن تيمية في منهاج السنة (2/ 163): «و في تاريخ المسعودي من الأكاذيب ما لا يحصيه إلا الله تعالى». قال العلامة أبو بكر بن العربي المالكي: «و أما المبتدع المحتال فالمسعودي، فإنه يأتي منه متاخمة الإلحاد فيما روى من ذلك. و أما البدعة فلا شك فيه». "العواصم من القواصم" يتحقيق محب الدين الخطيب (ص 249). و قال عنه إبن حجر في لسان الميزان (4/ 225): «و كتبه طافحة بأنه كان شيعياً معتزلياً».
[12] سلسلة الأحاديث الصحيحة (5/ 331).
[13] مقدمة في السيرة الصحيحة للدكتور أكرم العمري.
[14] لا بدّ من الإشارة هنا إلى أنه لا بد من التساهل في قبول الروايات التاريخية مقارنة مع الأحاديث النبوية. و لذلك نأخذ بالحديث المرسل إن لم يعارضه متصل. و كذلك نأخذ من الرواة العدول و إن خف ضبطهم ما لم يعارضو من هم أضبط منهم.
[15] إسم الكتاب كاملاً هو: "العِبَرْ و ديوان المبتَدأ و الخَبَر، في أيام العرب و العجم و البربر، و من عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر". و الكتاب من سبعة أجزاء، و المقدمة هي الجزء الأول منه فحسب!
[16] و أهم هذه الكتب و المراجع هي: The Life and Death of Carthage by Colette Picard and Gilbert Charles Picard. و كذلك كتاب Carthage by Gilbert Picard. أضف لذلك الموسوعتين الأميركية و البريطانية، و غيرها من المصادر المنصفة إلى حدٍّ ما.
[17] (المائدة: 8).
[18] و في رواية إعرف الحق تعرف أهله.
¥