ـ[السي]ــــــــ[11 - 04 - 02, 08:12 ص]ـ
وشرح هذا الضابط قد يطول، لكنني سأكتفي بأمثلة تبين بعض جوانبه: إذا جئت للسيرة النبوية، أجد أن أخبارها منها مايمكن أن يستنبط منه حكم شرعي: فهذا من السنة التي تنقد بهذا المنهج المحتاط لها، ومنها ما لا يستنبط منه حكم شرعي، كتاريخ سرية من السرايا، وعدد من كان فيها، وتحديد موقعها بدقة .. ونحو ذلك: فهذه لا نطبق عليها منهج المحدثين؛ إلا إن كان بعض ذلك له علاقة غير مباشرة باستنباط حكم، كمعفرة تقدم خبر أو تأخره ليفيدنا ذلك في الناسخ والمنسوخ، أو غير ذلك: فيمكن حينها أن أعود إلى احتياط المحدثين مع السنة في نقدي لهذا الخبر.
وإذا جئت للآثار المقوفة على الصحابة رضي الله عنهم:
- فإن منها ما يكون له علاقة بالأحكام كفتاواهم وأقضيتهم، فإذا كنت سأعتمد على قول صحابي في مسألة لا نص فيها (على سبيل المثال) فسأحتاط في نقدها وفق منهج نقد أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولا بد من ذلك فيها. أما إذا كانت المسألة فيها نص صحيح، فإن إيراد أقوال الصحابة بعد ذلك يكون استئناسا وتأكيدا لصحة فهمنا لذلك النص، فإن نقدنا ذلك الخبر بالاحتياط المذكور آنفا فهو حسن، وإن لم نفعل ذلك فالأمر واسع، ولن نضر المسألة العلمية شيئا، لورود النص فيها.
- ومنها ما يكون من باب الأخبار التاريخية: كأخبار الفتوح والغزوات ونحوها، وهذه حكمها حكم السيرة النبوية. فإذا جئنا لأخبار ما وقع بينهم في الفتنة، فواجب حينها أن تنقد بالاحتياط المذكور لأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز غير ذلك؛ وذلك اتساقا مع الضابض الكلي الذي وضعناه آنفا، وليس استثناء (خارجا عن القانون). حيث أن أخبار الفتنة ليست أخبارا مجردة لا ينبني أحكام على أشخاص، بل هي أخبار إذا ذكرت لا بد أن تترك في النفوس أحكاما على الأشخاص بالصواب أو الخطإ، وربما بالعدالة أو الفسق عند بعض الأقوام. وهؤلاء الأشخاص الذين ستصدر عليهم تلك الأحكام هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم أجمعين، وهم من سبق لهم من الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم الثناء والحكم بالعدالة. فلا بد من تمحيص تلك الأخبار، خاصة أنها أيضا كانت مجالا رحبا لأصحاب الأهواء وأمراض النفوس من أهل الغل والحقد على دين الله تعالى وعلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم للتقول والافتراء.
على أنه يمكن أن نعامل الأخبار المتعلقة بالفتنة أو ما كان بنحوها بمنهج وسط، وهو أنه إذا ثبت عندنا - بالمنهج الحديثي المحتاط - أصل خبر من الأخبار، أن نتمم جوانب هذا الخبر بتفاصيل من بقية الأخبار، بشرط أن لا يكون في تفاصيل تلك الأخبار شيء يعارض الحكم الثابت لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الخيرية والعدالة والفضل، وأن لا يعارض أصل الخبر الثابت أيضا.
والمثال الواقعي لذلك: أنني كنت من سنوات كثيرة قد درست الأخبار الواردة في قصة خالد بن الوليد رضي الله عنه مع مالك بن نويرة في حروب الردة، وهي قصة شهيرة، نسج عليها الأفاكون وأذنابهم من المستشرقين قصصا شنيعة. فوجدت أن أحد الباحثين رد القصة بالكلية، وخرج بنتيجة وهي أن مالك بن نويرة كان مرتدا كافرا، وأنه قتل بسيف الشرع، مع أن مالك بن نويرة رضي الله عنه لم يتخلف أحد عن ذكره في الصحابة، وهذا هو الظاهر من شأنه.
وبد دراسة أسانيد الخبر، تبين لي أنه لا يصح منها إلا إسناد واحد، أخرجه خليفة بن خياط في تاريخه (105)، يقول فيه ابن عمر رضي الله عنهما: ((قدم أبو قتادة على أبي بكر، فأخبره بمقتل مالك وأصحابه. فجزع من ذلك جزعا شديدا، فكتب أبو بكر إلى خالد، فقدم عليه. فقال أبو بكر: هل يزيد خالد على أن يكون تأول فأخطأ؟ ورد أبو بكر خالدا، وودى مالكا بن نويرة، ورد السبي والمال)).
فهذا الخبر على وجازته: أثبت أصل القصة، ووضع كل أمر في نصابه، واعتذر لخالد رضي الله عنه، ونفى تلك التهمة القبيحة عن مالك بن نويرة بدفع أبي بكر ديته إلى أوليائه،
يبقى أن في بقية الأخبار تفاصيل أخرى، لا يمكن أن نفهم الخبر السابق بغير الإطلاع عليها! فما العمل تجاهها؟
¥