وأوسع دوائر هذا الاستقراء: استقراء مصطلح أو مصطلحات جميع أهل الاصطلاح. وهي تقوم في الحقيقة على احتواء أضيق الدوائر جميعها، بجمع مصطلح أو مصطلحات أحد الأئمة من أهل الاصطلاح وحده، وهكذا غيره، إلى أن تجمع الألفاظ المعنية بالدراسة في استخدامات جميع أهل الاصطلاح، مقسمةً على مستخدميها كل واحدٍ منهم وحده. وبعد دراسة ألفاظ كل إمام، نقوم بالجمع بين النتائج، لاستخلاص نتيجةٍ واحدة.
وهذه الدائرة في ضخامتها وعظيم ما تحتاجه لتنفيذها، يمكن أن تتحد في مشروع واحدٍ جليلٍ تاريخي، مع الدائرة الأولى من الوجه الأول للاستقراء.
وبين هذه الدائرة وتلك: دوائر أخرى، تتسع وتضيق، بحسب سعة الاستقراء للأئمة من أهل الاصطلاح في استخداماتهم، أو ضيقه كذلك.
ويمكن أن تضبط هذه الدائرة الوسطى بضابط (الطبقة)، وإن كانت (الطبقة) أيضاً يمكن أن تتسع وتضيق. لكن الانضباط بالطبقة، مهما كانت، أسلم في المنهج، وأدق في النتيجة. إذ من غير المعقول أن أجمع في دراسةٍ واحدةٍ مثلاً بين محمد بن سيرين من التابعين وابن حبان من علماء القرن الرابع، فما فائدة هذا الجمع حينها؟! وما مدى مصداقية نتائجه؟!
وأذكر هنا ما يقوم به غالب الدارسين في مرحلتي (الماجستير) و (الدكتوراه)، من موازنة أقوال إمامٍ في الجرح والتعديل من أهل الاصطلاح مثل (شعبة بن الحجاج)، بأقوال الحافظ ابن حجر في (التقريب) مثلاً. فلا أدري! ولست إخال أدري! كيف انطلى هذا المنهج (الذي لا ينطوي على منهج) على المجالس العلمية والأساتذة الأكادميين في جامعتنا الإسلامية؟!!
فهل المنهج بين الإمامين واحد؟! وهل مصطلحهما واحد؟! وهل مصادر العلم وموارد المعرفة بين الإمامين وبين المعصرين واحدة أيضاً؟! ثم هل فهمنا ـ قطعاً ـ كل مصطلحات الحافظ؟ حتى نقيس عليها!! ثم هل يصح أن نجعل اجتهاد الحافظ مقياساً في الخطأ والصواب علم شعبة؟ مع ذلك الفارق الكبير والبون الشاسع بين الرجلين: في العصر، والاصطلاح، بل والعلم أيضاً!!!
ولو تنبه القائمون بتلك الدراسات، إلى ميزة الاصتقراء في دائرة (الطبقة)، لما رضوا عنها بديلاً!!
إذ إن (المصطلح)، غير المترجم عن علم متكامل، وهو النشىء من خلال التواضع والعارف، لا بد أن يمر بمراحل، قبل اكتمال ذلك العلم. وإن كانت هذه المراحل قد يكثر تتابعها وقد يقل، تطول المرحلة الواحة زمناً وقد تصر، وقد تنتهي المراحل من زمنٍ متقدمٍ باستقرار الصمطلح، وقد لا تنتهي إلا مع انتهاء تكامل ذلك العلم كله.
ولما كان أهل الطبقة الواحدة (وكلما ضاقت كان ذلك أدق) يعيشون زمناً واحداً، ومرحلة ً معينة ً متفقةً من مراحل علمهم؛ ومصطلحه؛ ولما كان من غير المعقول أن يكون أحمد بن حنبل لا يعرف ابن معين، ومن غير المتصور أن علي بن المدني لا يفهم تعليل أحمد= لذلك كان لاستقراء مصطلح أهل طبقةٍ واحدة له ميزة عظمى، في قوة الدراسة التالية لذلك الاستقراء، وفي دقة نتائج هذه الدراسة بعد ذلك.
وأومأ إلى ذلك إيماءةً لطيفة، الإمام أبو محمد ابن أبي حاتم، في كتابه (الجرح والعديل). حيث ذكر روايات مختلفة عن يحيى بن معين في تعديل المبارك بن فضالة وتجريحه، ثم علق على ذلك بقوله: ((اختلفت الرواية عن يحيى بن معين في مبارك بن فضالة والربيع بن صبيح، وأولاهما أن يكون مقبولاً منهما محفوظاً عن يحيى، ما وافق أحمد وسائر نظرائه)) (1)!!
وعلى كل حال، فإن الاستقراء في دائرة الطبقة له ميزات متعددة كثيرة، خاصةً إذا ضيقت الطبقة. أما إذا وسعت الطبقة، فيجب مراعاة الفروق المؤثرة بين افراد هذه الطبقة الواسعة. وربما بلغت مراعاة الفروق إلى فصل كل إمامٍ على حدة، لبالغ سعة الطبقة، والقيام بدراسة تشبه الدراسة التي ذكرناها في أوسع دوائر هذا الوجه من وجهي الاستقراء!
هذه هي الخطوة الأولى.
والخطوة الثانية: تفنيد كل لفظٍ على حدة، فيما لو كان استقرائي لأكثر من لفظ، أو تفنيد اللفظ الواحد الذي أقوم بدراسته عن بقية الألفاظ غير الداخلة في الدراسة.
ويجب التنبه في خطوة التفنيد هذه، إلى ضرورة تنفيذها بدقة متناهية.
¥