ثم ذكر مقدمة ابن عبد البر لكتابه التمهيد وذمَه أهل الكلام والأشعرية، ثم قال: وعلى هذا فلن يكون للمذاهب الكلامية أثر على ابن عبد البر من جهة العقيدة، لكن ابن عبد البر ممن استبق جيلهم التأثر بأصول الفقه وهو ابن جيله فلا بدّ أن يكون لأصول الفقه أثر عليه. . .
أما التأثر بالمنطق وصناعة المعرِّفات فلم يظهر لها أثر على ابن عبد البر في شرحه للمصطلحات وتعريفه بها.
ثم انتقل إلى الطور الثاني لكتب علوم الحديث (كتاب ابن الصلاح فما بعده) فقال:
إن معرفة أنواع علم الحديث لابن الصلاح من الكتب النادرة في العلوم الإسلامية التي ما إن صنفت حتى أصبحت إماماً لأهل فنِّها وهمّاً لطلاب ذلك العلم ولعلمائه، وأصلاً أصيلاً يرجعون إليه، ومورداً لا يصدرون إلا عنه ولا يحومون إلا عليه.
ثم ذكر تأثره بالخطيب البغدادي وأنه تبعاً له تأثر بالعلوم العقلية، لكنه زاد على الخطيب نتيجة لتأخُّره عنه بما يقارب القرنين من الزمان، ثم ذكر أمثلة لتأثر ابن الصلاح بالأصول ثم قال:
ومع هذا التأثر الكبير بالأصول عند ابن الصلاح إلى درجة ترجيح رأي الأصوليين على رأي أهل الفن من المحدثين إلا أنه زاد في بيان عمق هذا الأثر وأنه تعمّد مخالفة المحدثين إلى رأي الأصوليين. . . إلخ كلامه.
ثم تحدث عن ابن دقيق العيد وكتابه الاقتراح وانتقده ولم يطل في ذلك، ومثله في الكلام على الذهبي وكتابه الموقظة.
ثم خصص بقية الكلام على كتب المصطلح للحافظ ابن حجر وكتابه النخبة وشرحها ونزهة النظر، وأطال في ذلك معللاً ذلك، بما لنزهة النظر من قدسية لا تنال عند أهل عصره وكأنها كتاب ناطق أو سنّة ماضية.
فانتقد ترتيب النزهة لأنه مغاير لكل الكتب في علوم الحديث، فالكتاب مبني في ترتيبه على أساس التقسيم العقلي عند المناطقة .. ثم قال: وليس في هذا الترتيب مؤاخذة على الحافظ لكن ذلك يدل على تغلغل أثر علم المنطق وتعميقه في فكر الحافظ ومنهجيته إلى درجة بناء الكتاب في ترتيبه على أساسها.
ثم انتقد فيه تقسيم الأخبار ورأيه في معنى المنقطع والمرسل والفرق بينهما والعلة والشاذ والمنكر والمحفوظ والمعروف ومختلف الحديث والمرسل الخفي والتدليس والمصحَّف والمحرَّف وغيرها من الأنواع فانتقدها.
ثم تحدث عن مناهج كتب علوم الحديث بعد الحافظ ابن حجر فقال: إن أشهر الكتب في علوم الحديث بعد الحافظ ابن حجر هي:
1 - فتح المغيث للسخاوي، 2 – تدريب الراوي للسيوطي، 3 - توضيح الأفكار للصنعاني.
وقد اتخذت هذه الكتب وغيرها مما وضع في عصرها أو بعده من نزهة النظر أصلاً أصيلاً ومصدراً أساسياً في فهم مصطلح الحديث وتقرير قواعده، فتناقلت الكتب ما جاء في النزاهة ونصرته غالباً.
ولقد كان السخاوي مثالاً للتلميذ المتعصّب لشيخه الحافظ ابن حجر وحق له والله ذلك!! لكن الحافظ عندي إمام وابن الصلاح إمام والخطيب إمام والحاكم إمام، وغيرهم من نقّاد الحديث أئمة أيضاً، فلا معنى للتعصب عندي لأحدهم دون الآخر، لذلك رأيت الحق أولى ما ابتغي وسعي إليه وأحق ما نصر وتعصّب له.
والسيوطي في التدريب أخف من غيره تعصُّباً للحافظ، ولعلّ سبب ذلك أنه يشرح كتاباً للنووي، ثم هو لم يتتلمذ على الحافظ ابن حجر.
وأما الأمير الصنعاني فأبعدهم عن التعصُّب لكنه لا يجري مجرى غيره في ممارسة علم الحديث تطبيقاً وعملاً، ثم يؤخذ عليه تعويله على كتب الأصول وترجيح آراء أصحابها على آراء أصحاب الفن من المحدثين.
غير أنه مما يميز هذه الكتب وأشباهها أنها كتب موسعة مليئة بالنقول والأمثلة، إضافة إلى تحريرات وفوائد وفرائد لا يستغنى عنها إلا من استغنى عن هذا العلم؟.
بهذا ختم الكلام عن كتب المصطلح، وهو كلام جيد يحفظ له، ولا ضير في النقد لأن هؤلاء وإن كانوا أئمة فإنهم غير معصومين يقع منهم كغيرهم الخطأ، والغالب هو الصواب، إلا أن إبرازه والاهتمام به بهذا الأسلوب وإظهار الملاحظات بهذه الطريقة قد تزهِّد الطالب المبتدئ في هذه الكتب التي هي العدة الحقيقية والزاد الوحيد للطالب في بداية الطلب، لكن المؤلف وفّقه الله لو اعتنى بهذه الكتب كلٌّ منها على حِدة فحققها ونشرها وعلّق عليها وبيّن رأيه في مسائلها لكان عين الحكمة والصواب، لأن إبراز الأخطاء يزهد في كتب العلم، ولذا لا يرى كبار علمائنا أن تُفرد الملاحظات على تفاسير الأئمة وشروحهم للأحاديث مثل: فتح الباري وشرح النووي على مسلم وغيرها مما نفعه كبير والضرر فيه نزر يسير قد يغتفر بمقابل ما اشتمل عليه من نفع عظيم.
فائدة:
ذكر على صفحة العنوان من هدي الساري مقدمة فتح الباري الطبعة الأولى بالمطبعة الكبرى الميرية ببولاق ما نصّه:
قال في الضوء اللامع في ترجمة الحافظ ابن حجر ما لفظه:
وسمعته يقول: لست راضياً عن شيء من تصانيفي لأني عملتها في ابتداء الأمر ثم لم يتهيأ لي من تحريرها سوى: شرح البخاري ومقدمته والمشتبه والتهذيب ولسان الميزان، بل كان يقول فيه: لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أتقيّد بالذهبي ولجعلته كتاباً مبتكراً.
بل رأيته في مواضع أثنى على شرح البخاري والتغليق والنخبة ثم قال: وأما سائر المجموعات فهي كثيرة العَدد، واهية العُدد، ضعيفة القوى، ظامية الروى، ولكنها كما قال بعض الحفاظ من أهل المائة الخامسة:
وما لي فيه سوى أنني == أراه هوى وافق المقصدا
وأرجو الثواب بكتب الصلاة == على السيد المصطفى أحمدا
وهذا الحافظ الشهم هو أبو بكر البرقاني وقبلهما:
أعلل نفسي بكتب الحديث == وأحمد فيه لها الموعدا
وأشغل نفسي بتصنيفه == وتخريجه دائماً سرمدا
قلت: لم أجد هذا في ترجمة الحافظ من الضوء اللامع (2/ 36 - 40)، بل هو في الجواهر والدرر في ترجمة ابن حجر للسخاوي ورقة 152 / ب مخطوط.
ـــــــــ
[1]- الباعث الحثيث لأحمد شاكر 1/ 127.
[2]- انظر الرسالة للإمام الشافعي 461، 599، الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي 1/ 96، مجموع فتاوى شيخ الإسلام 13/ 351، 18/ 41، ومختصر الصواعق 4/ 1465، ومذكرة الشنقيطي في أصول الفقه ص 104.
[3]- انظر المسودة لآل تيمية 244، والجواب الصحيح لشيخ الإسلام 4/ 293.
¥