وإحسان الظن بمن حسَّن هذا الوجه المرفوع أو جوَّده: محملُه يكون على كونه لم يطَّلِع على من وقفه عن ابن عمر قولَه!! ولا وقف على تصحيح أبي حاتم لوقْفِه!!
هذا ظنُّنا بأهل العلم ممن حسُنَ رأيُه في سند الحديث فقبِلَه.
ونحن نلتمس الأعذار لأهل العلم ما وسعنا السعي إلى ذلك، ولا نستطيع أن نتجشَّم خَدْشَ أعراضهم بما يرتدُّ إلينا في مَقْتَل!
وهذا العلم الشريف: مبناه على الاجتهاد وبذلِ الوسْع في بلوغ المراد، فكيف يستقيم التشنيع - فضلا عن التقريع - في حق المجتهد الذي ضلَّ نهْجَ الصواب فيما هو بسبيله؟!
وإنما يَحْسُنُ إغلاظ العبارة في حق المعاندين والجامدين والدُّخَلاء في هذا الفنِّ بما يوقف المتهجِّم منهم عند رتبته التي ضلَّ سبيل الاهتداء إليها بكلامه بالجُزاف في النقد والتعليل، والجرح والتعليل!
وإغلاظ العبارة في حق هؤلاء: إنما يكون بحسب جناية أفرادهم واغترابهم عن الحق بعدما تبيَّن لهم كفَلَق الإصباح!
أما الراسخون في العلم: فليس من الجفاء أن يتعقبهم الحاذق بما زلَّت فيه أقدامهم، وانحرفتْ بهم عن سبيل المحجَّة أشرعتُهم، دون الجناية عليهم بمالم تقترفه ألسنتهم، أو التطوُّل على مقامهم العالي بما يحط من عظيم منزلتهم! فإن هذا من تمام الإحسان إلى جميعهم، بل هو من كمال التزلُّف بالمعروف إلى الله ثم إليهم.
نسأل الله كلمة الإنصاف في السخط والرضا، وأن يتقبل منا صالح الأعمال في تلك الحياة الدنيا، وإلا فقد خِبْنا وخسرنا، وضَللْنا طريق الرشاد وما اهتدينا!
وما فائدة العلم والمعرفة إذا لم يقودا صاحبهما إلى مراقي الفلاح، ويأخذا بيديه حتى يبلغ معاقد الفلاح؟!
يقول الناس: (هذا مُحَدِّث!!) وما (محدِّث)؟!
إنما المحدِّث حقًا هو من حدَّث نفسه بحديث أهل القبور بعد أن طوَتْهُم الأرض في بطنها، وغمرَتْهم برهيب ظلامها! فأمسوا في خوف عظيم يتلمَّسون سُبُل النجاة وهم في مضاجعهم من هول ما يعرفونه عن يوم المطْلَع، نَدَامَى حَزَانَى بما قدّموه من التفريط في جنْبِ الله يوم أن كانوا يطأون الثرى بأعقابهم على ظهر تلك الحياة الزائفة!
ويقول الناس: (هذا فقيه)! والفقيه حقًا هو مَنْ فَقِهَ حقيقة تلك الدار الغَرُور، فحملتْه الخشية من الجبار على أن يعدَّ الزاد ليوم المعاد، ثم قعد خاليًا يندبُ ويْلاتِ نفسِه، ويبكي حال يومه وأمسِه! ويقول وهو يتندَّم: ويْلِي ماذا فعلتُ؟! وعلى مَنْ تجرَّأتُ؟!
ويقولون: (هذا عالم)! وما (عالم)؟! وكيف يكون عالمًا من لا يتورَّع عن الخوض في الشبهات! فضلا عن اقتراف الجرائر برخيص التأويلات!؟
ويقولون: (هذا عارف)! وما (عارف)؟! إنما العارف من عرف حق الله والناس قبل أن يعرف لنفسها حقها!
قد والله نادَى العِلْمُ بصاحبه ولو كان مُتَحَشْرِجُ النَّفَس، فإنْ أجابه وإلا ارتكس!
فأبعد الله علمًا لا يأخذ بأزمَّة صاحبه إلى مرضاة الله والرسول، وأقْصَى الله معرفة تقطع على حاملها حبائلَ الوصول إلى مدارج الأصول!
وقد أخبرنا الشيخ المعمَّر فوق المئة: محمد فؤاد طه الدمشقي -إجازة - عن البدر الحسَني عن أبيه يوسف بن عبد الرحمن الحسني عن عبد الرحمن الكزبري عن مرتضى الزَّبيدي عن عمر بن عقيل المكي عن حسن بن عليّ العجيمي عن البرهان إبراهيم الميموني عن الشمس الرملي عن شيخ الإسلام زكريا الأنصاري عن الحافظ ابن حجر عن أبي محمد عبد الله بن محمد المقدسي عن أبي العباس الحجار عن جعفر بن علي الهمداني عن أبي طاهر السلفي عن إسماعيل بن عبد الجبار المالكي عن أبي يعلى الخليلي قال: حدثني جدي وعبد الواحد بن محمد قالا: حدثنا علي بن مهرويه حدثنا ابن أبي خيثمة حدثنا عمر بن حفص حدثنا وهب البغدادي حدثني زائدة ابن قدامة قال: (تَبِعتُ الأعمش يومًا، قال: فأتى المقابر، فدخل في قبر محفور، فاضطجع، ثم خرج منه وهو ينفض التراب عن رأسه ويقول: واضيق مسكناه).
رحم الله سليمان بن مهران وغفر له، ما كان أفقهه بالله وأعلمَه!
هذا والله هو الفقيه والمحدث حقًا، والعالم والعارف بالله حقيقة وصدقًا.
فيما ويل ابن آدم إن كان يريد بما يسطره أن يصرف وجوه الناس إليه!! ووافضيحته يوم النشور إن كان غايته من طلب العلم هو تحصيل الدرهم والدينار!
قد والله خاب وخسر إن لم يكن يحتسب تَعَبه وسهره وضعْفَ نور عينيه في تحصيل العلوم عند ربه وخالقه ومولاه!!
ومَنْ يرضَى عنه إذا كان الذي في السماء عليه ساخط؟!
وأي شيء يُجْديه إذا كان سيده لا يرضى به؟! فإلى من يذهب؟ وكيف يكون المخرج؟!
وكم يتجنَّى علي نفسه وهي مُهْلِكتُه؟!
وإلى متى يتجاوز قدْرَه وهو الضعيف الحقير!!
فيا طول حسرتِه إنْ لم يكن يُسامَح في الهفوات! ويا طولَ عذابه إن كان ممن يأخذه ربه بمطْلَق الزلات!
فوالله لقد لُدِغَ حيث لا يستطيع أن يضع الراقي أنفَه!! واسْتُهْدِفَ يوم اسْتُهْدِفَ من لا راعي له إلا الذئب!!
فاللهم توبةً خالصة نتخلَّص بها من صنوف الأقذار، وإنابةً صادقة تحجبُ بها عنا أبواب النار! فإنك بكل جميل كفيل، وأنت حسبنا ونعم الوكيل.
وإنما كان هذا عارضًا من القول جَرَى به القلم جُزافًا؛ علِّي أستيقظَ من عظيم غفلتي؛ وأستفيقَ من عميق غفْوتي!! وأنهض من طول رقْدتي!!
فقد شهدتُ مصرع الكثير من إخواني!! وأدرجتُ بيدي بعض أقراني!! ولا تزال القلوب باردة!! والأفئدة يابسة!!
وكأني بي وقد نَسَج الناسج كفني وأنا لا أدري!! وحفر الحافر حُفْرتي وأنا لا أزال سادرًا في إسار خَطَلي ولهْوي!! فالله يغفر لي ويسامحني؛ فقد أبصر مني ما لا يعلمه غيره عني.
نسأل الله الثبات حين الممات. ومزيدًا من الأعمال الباقيات الصالحات.
انتهى بحروفه: من (رحمات الملأ الأعلى بتخريج مسند أبي يعلى) [رقم/5698].
¥