وذهب أبو حنيفة وصاحبه محمد بن الحسن وعليه الفتوى عند الحنفية إلى أنه لا يرد البيع بعيب التصرية، بل يجب الأرش، وهو أن يدفع البائع للمشتري عوضاً عن نقصان ثمن الشاة، الذي تبين له باكتشاف العيب أنها كانت مِصَرّاةً.
وقد اشتهر عن الحنفية أنهم قدموا القياس على الحديث الصحيح، والقياس رأي، ومعلوم أنه لا رأي في مقابل النص.
والحقيقة أن لفظة قياس هنا أوهمت غير المراد، وإن استعملت في بعض كتب أصول الحنفية، فإن المراد بالقياس هو الأصل الشرعي الثابت بأدلة القرآن والسنة القطعية، التي توجب المساواة في العوض. مثل قوله تعالى: (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به".
وهذا عمل بالنص في الموضوع مدعماً بأصول متفق عليها في المعاملات المالية (27)، نحو صنيع عمر رضي الله عنه في قصة فاطمة بنت قيس.
المثال الثالث: ما أخرجه مالك عن نافع عن ابن عمر أن النبي (قال: "المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار" وهو حديث متفق عليه (28). وهذه السلسلة أصح الأسانيد وتسمى سلسلة الذهب، فقال الشافعي وأحمد بظاهر النص وهو تشريع الخيار بعد عقد البيع بعد أن يتفرق البيعان.
وخالف الإمام مالك راوي الحديث بهذا السند الذي هو أصح الأسانيد وكذا الحنفية، وقالوا لهما الخيار بعد إيجاب أحدهما بقوله: "بِعتُ" مثلاً قبل قبول الآخر بقوله "اشتريت".
والسبب في ذلك أن القرآن أباح الانتفاع بالمبيع وبالثمن بمجرد العقد في قوله تعالى: (إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم (لم يقيده بما بعد المجلس، وكذلك ما قاله الإمام مالك نفسه في الموطأ فقال عقب رواية الحديث: "وليس لهذا عندنا حد معروف، ولا أمر معمول به فيه".
وحاصله أنه لم يدر كم يستمر المجلس، فلو توقَّف الملك على التفرق لأدى إلى الغرر وقد ثبت تحريم بيع الغرر بالسنن الصحيحة والإجماع. لذلك قالوا إن المراد من الحديث إلا أن يتفرقا بأقوالهما، وذلك بأن يتم الإيجاب والقبول، ولفظ الحديث يحتمل هذا المعنى فعملوا بالحديث عليه للأدلة التي عرفتها، وهذا لا يجوز أن يجعل تركاً للسنة النبوية.
أثر الخبر الآحادي الصحيح في العقيدة:
نمهد لهذا البحث ببيان مراتب العلم الذي يستفاد من الدليل المعمول به في الشريعة: وهي ثلاث مراتب:
1 - العلم اليقيني القطعي: وهو ما ثبت بالأدلة القطعية اليقينية، كنص القرآن الكريم والحديث المتواتر، والحكم العقلي الذي لا يقبل رداً، لكونه من المسلَّمات، مثل: "الثلاثة أكثر من الاثنين"، وكون "الاثنين نصف الأربعة". وهذا النوع يعرفه كل متعقل، ولو لم يكن من أهل الاختصاص العلمي في المسألة.
والدليل الذي يثبت هذا العلم يجب قبوله والاعتقاد به ويكفر جاحده، لأنه لفرط ظهور قطعيته صار من المسلَّمات المقطوع بها. وصارت الوسائط كأن لم تكن، وصار المطلع عليه كالسامع من النبي نفسه سواء بسواء، فيكون منكره مكذباً بالنبي (.
2 - العلم النظري: وهو علم يقيني، لكن ليس ضرورياً، أي ليس ظاهراً لكل أحد، إنما هو علم نظري استدلالي، لا يحصل إلا للعالم المتبحر في العلم، لتبحر الباحث في علم الحديث وفي أحوال الرواة والعلل ...
3 - علم غلبة الظن، والمراد بها: إدراك رجحان صدق القضية ووقوع ذلك في القلب موقع القبول، وذلك في كل قضية دل دليل صحيح على ثبوتها، لكن بقي احتمال مغلوب بعدم الثبوت، لم يقطع الدليل ذلك الاحتمال، فهذا الاحتمال لا يمنع من القبول، وربما يظنه بعض الناس ولا سيما العوام يقيناً، لعدم تفريقهم بين الأمرين، وإنما هو علم قائم على الشعور القوي بصحة القضية، وهذا يجب العمل به والأخذ بمقتضاه في الأحكام، كما أوضحنا فيما سبق، وهو في الواقع نوع من العلم، كما قال بعض الأصوليين. إنه إدراك الطرَف الراجح. وهو ملزم أيضاً، لكن العلماء نبهوا على هذا الاحتمال الضعيف الذي في هذا النوع والذي لا يلتفت إليه، ليأخذ حكمه المناسب، بإزاء المرتبتين السابقتين.
بعد هذا البيان لمراتب العلم فإني أرى أيضاً استكمال التمهيد بأن أقسم خبر الواحد الصحيح إلى قسمين:
القسم الأول: خبر الواحد الصحيح من حيث هو. أي لم تحتف به قرائن تقويه.
القسم الثاني: خبر الواحد الصحيح الذي احتف بقرائن تقويه، وترتفع به عن غلبة الظن.
¥