3 - في العبارة رقم /6/ ينسب القول بإفادة الخبر الآحادي العلم إلى الشافعي ومالك وأصحاب أبي حنيفة، دون تقييد بكونه تلقته الأمة بالقبول، بينما كلام الإمام الشيرازي الشافعي واضح بأن هذا الحكم إنما هو للحديث الذي تلقته الأمة بالقبول، وكذلك صرح أبو يعلى الحنبلي بأن على هذا أيضاً المذهب أي مذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى.
ونحرر فيما يلي البحث في هذه النواحي، بتحقيق يضع كل جزئية في موضعها الصحيح إن شاء الله تعالى:
أثر الخبر الصحيح المجرد في العقيدة:
المعروف أن الخبر الآحادي الصحيح الذي لم تتلقه الأمة بالقبول، ولم يحتف بقرائن تقويه لا يفيد العلم اليقيني، بل يفيد علم غلبة الظن، وهذا هو مذهب الأئمة الأربعة وجماهير علماء أصول الفقه، وعباراتهم في ذلك أكثر من أن تحصر.
وذهب ابن حزم وبعض أهل الحديث إلى أنه يفيد العلم، ونسب ذلك الباجي إلى الإمام أحمد، وابن خويز منداد للإمام مالك.
لكن في هذه النسبة إشكال: فقد رأيت من كلام القاضي أبي يعلى الجزم بأن مذهب الإمام أحمد إنما هو في إفادة الخبر المتلقى بالقبول للعلم، خلافاً لمن لم يقيده بذلك، وكذلك نازع المازري ابن خويز منداد فيما نسبه لمالك (29)، وكتب أصول الفقه المالكي واضحة في اتجاه المازري. وقد استنكر الأصوليون أصل هذا المذهب، وأولوا ما عزي منه للأئمة؛ قال الإمام الغزالي (30): "خبر الواحد لا يفيد العلم، وهو معلوم بالضرورة فإنا لا نصدق بكل ما نسمع، ولو صدقنا وقدرنا تعارض خبرين، فكيف نصدق بالضدين، وما حكي عن المحدثين من أن ذلك يوجب العلم، فلعلهم أرادوا أنه يفيد العلم بوجوب العمل، إذ يسمى الظن علماً". أي لكن لا يراد به المعنى الاصطلاحي الذي شرحناه من قبل.
فالحقيقة أن مستقر هذه الفكرة هو مذهب الظاهرية، وقد قال بها بعض العصريين ورجحها تبعاً لميله إلى ابن حزم الظاهري.
وليس مراد الجمهور من قولهم: "لا يفيد العلم" أنه لا يلزم تصديقه كما قد يتوهم، بل مرادهم أنه ليس بمنزلة المتواتر لأن المتواتر يفيد علماً قاطعاً يقينياً لا يخطر في البال وجود أي احتمال للخطأ فيه، مهما كان الاحتمال ضعيفاً، مثل واحد من مليون. أما خبر الواحد فيفيد الصدق والقبول، لكن يقع في ذهن الباحث العالم أنه قد يحتمل وقوع الخطأ أو الكذب فيه، لما سبق أن الثقة ليس معصوماً من الذنب، وليس وصفه بالضبط يعني أنه لا يخطئ، بل يعتبر ثقة إذا كانت أوهامه نادرة. فالاحتمال موجود في تصور العقل، لكنه بعيد لغلبة صدق الراوي وأمانته وضبطه للحديث، فكان من منهج العلماء العلمي الدقيق التنبيه على مثل هذا الفرق، لوضع كل شيء في موضعه الذي هو عليه، وإن كان مثل هذا قد يخفى على كثير من الناس، ولا سيما العوام، بل إن عامة الناس، بل بعض أهل العلم الذين لم يمهروا في تطبيق أصول هذا الفن قد يكتفي بتدين الشخص عن اتصافه بالضبط، يقول أحدهم: حدثني فلان وهو رجل صدوق لو قطعت عنقه لم يكذب!. أما المحدث فلا يكتفي بذلك لقبول خبره، حتى يتثبت من ضبطه.
لكن ليس معنى هذا أنه لا يجب التصديق بخبر الواحد الصحيح، كلا، ثم كلا، بل قد قرر العلماء من كل المذاهب لزوم الاعتقاد بالخبر الآحادي الصحيح، كما قرروا وجوب العمل به أيضاً، ولم يفرقوا بين الأمرين كما قد يظن.
يقول الإمام السرخسي الحنفي رحمه الله بعد بيان نحو ما قدمناه (31): "فأما الآثار المروية في عذاب القبر ونحوها فبعضها مشهورة وبعضها آحاد، وهي توجب عقد القلب عليه، والابتلاء بعقد القلب على الشيء بمنزلة الابتلاء بالعمل به أو أهم ... ".
وقال الإمام البَزدوي في أصوله (32): "فأما الآحاد في أحكام الآخرة فمن ذلك ما هو مشهور ومن ذلك ما هو دونه، لكنه يوجب ضرباً من العلم على ما قلنا، وفيه ضرب من العمل أيضاً، وهو عقد القلب .. ".
وقال الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه في الرسالة (33).
"أما ما كان نص كتاب بيِّن أو سنة مجتمع عليها فالعذر فيها مقطوع، ولا يسع الشك في واحد منهما، ومن امتنع من قبوله استتيب".
¥