وإذا كان هذا غير منكر فلا يبعد أن يحصل التصديق بقول عدد ناقص عند انضمام قرائن إليه، لو تجرد عن القرائن لم يفد العلم، فإنه إذا أخبر خمسة أو ستة عن موت إنسان لا يحصل العلم بصدقهم، لكن إذا انضم إليه خروج والد الميت من الدار حاسر الرأس حافي الرجل ممزق الثياب مضطرب الحال يصفق وجهه ورأسه وهو رجل كبير ذو منصب ومروءة لا يخالف عادته ومروءته إلا عن ضرورة فيجوز أن يكون هذا قرينة تنضم إلى قول أولئك فتقوم في التأثير مقام بقية العدد، وهذا مما يُقطع بجوازه، والتجربة تدل عليه ... ".
وخالف في أصل المسألة صاحبا مُسلِّمِ الثبوت وشرحه فواتح الرحموت من الحنفية، وقالا: إنه لا يفيد العلم، وفي المُسلَّم وشرحه مناقشة مطولة متسلسلة حول هذه القضية، يمكن أن تتبلور فكرتها أمام القارئ بهذا النقاش الموجز نسوقه من المتن والشرح (36):
"إن دلت القرينة على تحقق مضمون الخبر قطعاً، كالعلم بخجَل الخجِل ووجَل الوَجِل الحاصلين من مشاهدةَ الحمرة والصفرة، فالعلم بها أي بالقرينة دون الخبر، وإن دلت القرينة عليه ظناً، والخبر يدل على تحقق مضمونه أيضاً يدل ظناً، فمن الظنين الحاصل أحدهما بالقرينة والآخر بالخبر لا يلزم العلم ضرورة". انتهى.
وفي رأيي أن التحقيق والتدقيق في مناقشات الفريقين يؤدي إلى أن الخلاف بينهم في هذه القضية ليس خلافاً حقيقياً، بل هو خلاف لفظي، لأن الذي ينفيه دليل المانعين في شقه الأول هو إفادة خبر الآحاد العلم بنفسه، وهذا لا يمنع إفادة العلم بالمجموع، وهو المطلوب، والذي ينفيه دليل المانعين في شقه الثاني هو لزوم إفادة مجموع الخبر والقرائن العلم ضرورة، وليس هذا هو المدعى، إنما المدعى إمكان إفادة العلم النظري، فإذا تحقق هذا الإمكان، فما المانع من الأخذ به عند تحقيقه.
الفرق بين العلم القطعي والعلم النظري:
وهذا العلم هو علم نظري استدلالي يقيني، لكنه ليس كالعلم الضروري القطعي الذي يفيده الخبر المتواتر، بل إن هناك فرقاً بينهما ذكره علماء الأصول وعلماء الحديث:
يقول الإمام الغزالي (37): "النظري هو الذي يجوز أن يعرض فيه الشك، وتختلف فيه، فيعلمه بعض الناس دون بعض، ولا يعلمه مَنْ ليس من أهل النظر، ولا يعلمه مَنْ ترك النظر قصداً، وكل علم نظري فالعالم به قد يجد نفسه شاكاً ثم طالباً".
ويقول الحافظ ابن حجر في شرح النخبة (38): "وهذه الأنواع التي ذكرناها لا يحصل العلم بصدق الخبر منها إلا للعالم بالحديث المتبحر فيه العارف بأحوال الرواة المطلع على العلل.
وكون غيره لا يحصل له العلم بصدق ذلك لقصوره عن الأوصاف المذكورة لا ينفي حصول العلم للمتبحر المذكور".
حكم العلم النظري:
ولما كان العلم النظري مختلفاً عن العلم القطعي الضروري هذا الاختلاف، فقد اختلف حكم الخبر الذي ترقى بالقرائن لإفادة العلم النظري عن الحديث المتواتر، من أوجه نذكر منها:
1 - أن الحكم على الحديث إذا بلغ إفادة القطع يختلف من شخص إلى آخر، لأن القضية قضية بحث، وما يكون كافياً عند بعض أهل العلم قد لا يكفي عند غيره، فلا يجوز الإنكار فيه على من لم يجد البحث كافياً لإثبات أن الدليل الفلاني بعينه لا يبلغ درجة العلم.
2 - أن من أنكر قضية ثابتة بدليل يفيد العلم النظري يأثم، بل يضلل عياذاً بالله تعالى، وهو حكم أشد من حكم المنكر للخبر الآحادي المجرد، لكنه لا يكفر اتفاقاً. قال العلامة محب الله بن عبد الشكور في الكلام على الحديث المشهور (39): "وجعله الجصاص قسماً من المتواتر مفيداً للعلم نظراً، والاتفاق على أن جاحده لا يكفر، بل يضلل".
قال المحقق عبد العلي الأنصاري في شرحه يعلق على قوله: "جاحده لا يكفر"-:
"أما عند غير الشيخ أبي بكر الجصاص فظاهر، وأما عنده فلأن قطعيته نظرية، فقد دخل في حيز الإشكال، وما قيل إنه لم يبق على هذا ثمرة للخلاف، ففيه أن الثمرة عنده لما كان قطعياً يعارض الكتاب وينسخه جميع أنحاء النسخ، بخلاف الجمهور ... ".
ومن هنا نفهم المراد من إطلاق عبارات بعض الأصوليين حين يقولون: خبر الواحد لا يفيد العلم".
¥