فكان مجيء ملك الموت إلى موسى عليه السلام على غير الصورة التي كان يعرفه موسى عليه السلام عليها، وكان موسى غيوراً، فرأى في داره رجلاً لم يعرفه، فرفع يده فلطمه، فأتت لطمته على فقء عينه التي في الصورة التي يتصور بها، لا الصورة التي خلقه الله عليها، ولما كان المصرح عن نبينا r في خبر ابن عباس، حيث قال: "أمني جبريل عن البيت مرتين"، فذكر الخبر، وقال في آخره: "هذا وقتك ووقت الأنبياء قبلك" .. كان في هذا الخبر البيان الواضح أن بعض شرائعنا قد تتفق ببعض شرائع من قبلنا من الأمم.
ولما كان من شريعتنا أن من فقأ عين الداخل داره بغير إذنه، أو الناظر إلى بيته بغير أمره من غير جُنَاحٍ على فاعله، ولا حرج على مرتكبه؛ للأخبار الجمة الواردة فيه التي أمليناها في غير موضع من كتبنا ـ كان جائزاً اتفاق هذه الشريعة بشريعة موسى، بإسقاط الحرج عمن فقأ عين الداخل داره بغير إذنه، فكان استعمال موسى هذا الفعل مباحاً له، ولا حرج عليه في فعله.
فلما رجع ملك الموت إلى ربه وأخبره بما كان من موسى فيه، أمره ثانياً
بأمر آخر، أمر اختبار وابتلاء كما ذكرنا من قبل، إذ قال الله له: قل له: إن شئت فضع يدك على متن ثور، فلك بكل ما غطت يدك بكل شعرة سنة، فلما علم موسى كليم الله ـ صلى الله على نبينا وعليه ـ أنه ملك الموت، وأنه جاءه بالرسالة من عند الله، طابت نفسه بالموت، ولم يستمهل، وقال: فالآن.
فلو كانت المرة الأولى عرفه موسى أنه ملك الموت، لاستعمل ما استعمل
في المرة الأخرى عند تيقنه وعلمه به، ضد قول من زعم من أصحاب حديث حمالة الحطب ورعاة الليل، يجمعون ما لا ينتفعون به، ويرون ما لا يؤجرون عليه، ويقولون بما يبطله الإسلام، جهلاً منه لمعاني الأخبار، وترك التفقه في الآثار، معتمداً منه على رأيه المنكوس،
وقياسه المعكوس".
* قلتُ: ونقل الحافظ في "الفتح" (6/ 442) عن ابن خزيمة نحوه وهذا البيان من الحافظ الجليل ابن حبان رحمه الله يأتي على اعتراض "البيطري" من القواعد، وقد تَعرِضُ شبهة لآحاد الأذكياء فاتت على المعترض، وهي في قوله: "أجب ربك"، فقد يقول قائل: إن هذه الكلمة كانت كفيلة بأن يعرف موسى عليه السلام أنه مرسل من عند الله.
فقد أجاب ابن حبان (14/ 117) قائلاً: "هذه اللفظة (أجب ربك) قد توهم من لم يتبحر في العلم، أن التأويل الذي قلناه للخبر مدخول، وذلك في قول ملك الموت لموسى: (أجب ربك) بيان أنه عرفه، وليس كذلك، لأن موسى عليه السلام لما شال يده ولطمه، قال له: (أجب ربك)، توهم موسى أنه يتعوذ بهذه اللفظة، دون أن يكون رسول الله إليه، فكان قوله: (أجب ربك) الكشف عن قصد البداية في نفس الابتلاء والاختبار الذي أريد منه". انتهى
ثم قوله لموسى عليه السلام: (أجب ربك) معناه: سلم لي نفسك لأنتزع روحك، فهذا هو القتل، ودفع الصائل مشروع حتى لو أدى إلى قتله كما قرره العلماء، وقد قال النبي r : " من قتل دون أهله وماله فهو شهيد".
الجواب الثاني: أنه قد ثبت عن النبي r أنه قال: "إنه لم يُقبض نبي قط حتى يرى مقعده من الجنة ثم يُخيَّر". قالت عائشة: فلما نزل به ورأسه على فخذي غُشي عليه، ثم أفاق فأشخص بصره إلى سقف البيت، ثم قال: "اللهم الرفيق الأعلى". فقلتُ: إذن لا يختارنا ... الحديث.
أخرجه البخاري (8/ 136، 150، 255، 11/ 149، 357) ومسلم (2444/ 86)، وأحمد (6/ 296)، وأحمد (6/ 296)، وابن ماجة (1620)، وحماد بن إسحاق في "تركة النبي r" ( ص 52)، وابن عبد البر في "التمهيد" (24/ 268 - 269)، من طريقين عن عروة عن عائشة.
وفي رواية لسعيد بن إبراهيم، عن عروة: "ما من نبي يمرض إلا خُيِّر بين الدنيا والآخرة ... ".
* قلتُ: فهذا الحديث صريح في أن كل نبي كان يخيره الله عز وجل بين الحياة والموت، وقد خُير نبينا r .
فروى الشيخان عن أبي سعيد الخدري t قال: خطب رسول الله r الناس وقال: "إن الله خير عبداً بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ذلك العبد ما عند الله". قال: "فبكى أبو بكر، فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله r عن عبدٍ خُيِّرَ، فكان رسول الله r هو المخير، وكان أبو بكر أعلمنا.
¥