وكان يقع لي أن حديث أبي هريرة كما ذكرنا مما انقلب على بعض الرواة متنه وأصله، ولعله: "وليضع ركبتيه قبل يديه" كما انقلب على بعضهم حديثُ ابن عمر: "إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم" فقال: "إن ابن أم مكتوم يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال". وكما انقلب على بعضهم حديث: "لا يزالُ يُلقى في النار فتقول: هل من مزيد ... " إلى أن قال: "وأما الجنة فُينشئُ الله لها خلقاً يسكنهم إياها". فقال: حتى رأيت أبا بكر بن أبي شيبة قد رواه كذلك، فقال ابن أبي شيبة: حدثنا محمد بن فُضيل، عن عبد الله بن سعيد، عن جده، عن أبي هريرة، عن النبي r قال: "إذا سجد أحدُكُم فليبدأ بركبتيه قبل يديه، ولا يَبرُك كبروك الفَحلِ".
ورواه الأثرم في "سننه" وأيضاً عن أبي بكرٍ كذلك، وقد رُويَ عن
أبي هريرة عن النبي r ما يُصدِّق ذلك، ويوافق حديث وائل بن حُجر، قال ابن أبي داود: حدثنا يوسف بن عدي، حدثنا ابن فُضيل ـ هو محمد ـ عن عبد الله بن سعيد، عن جده، عن أبي هريرة t أن النبي r كان إذا سجد بدأ بركبتيه قبل يديه.
وقد روى ابن خزيمة في "صحيحه" من حديث مصعب بن سعد، عن أبيه قال: كنا نضع اليدين قبل الركبتين، فأُمِرنا بالركبتين قبل اليدين. وعلى هذا فإن كان حديث أبي هريرة محفوظاً، فإنه منسوخ، وهذه طريقة صاحب "المُغني" وغيره، ولكن للحديث علتان:
إحداهما: أنه من رواية يحيى بن سلمة بن كهيل، وليس ممن يُحتَّجُ به. قال النسائي: متروك. وقال ابن حبان: منكر الحديث جداً لا يُحتج به. وقال ابن معين: ليس بشيء.
الثانية: أن المحفوظ من رواية مصعب بن سعد عن أبيه هذا إنما هو قصة التطبيق، وقول سعد: كنا نصنع هذا فأُمِرنا أن نضع أيدينا على الركب، وأما قول صاحب "المُغني" عن أبي سعيد قال: كنا نضع اليدين قبل الركبتين فأُمِرنا أن نضع الركبتين قبل اليدين، فهذا ـ والله أعلم ـ وَهَمٌ في الاسم، وإنما هو:"عن سعدٍ"، وهو أيضاً وَهَمٌ في المتن كما تَقَدَّم، وإنما هو في قصة التطبيق، والله أعلم.
وأما حديث أبي هريرة المتقدم، فقد علله البخاري، والترمذي، والدار قطني.
قال البخاري: محمد بن عبد الله بن حسن لا يُتابَع عليه.
وقال: لا أدري أسمِعَ من أبي الزناد، أم لا؟
وقال الترمذي: "غريبٌ لا نعرفه من حديث أبي الزِّناد إلا من هذا الوجه".
وقال الدار قطني: "تفرد به عبد العزيز الدراوردي، عن محمد بن عبد الله بن الحسن العلوي، عن أبي الزناد" وقد ذكر النسائي عن قتيبة:
حدثنا عبد الله بن نافع، عن محمد بن عبد الله بن الحسن العلوي،
عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن النبي r قال: "يَعمِدُ أحدُكم في صلاته، فيبرُكُ كما يبرُكُ الجمل" ولم يزد. قال أبو بكر بن أبي داود: وهذه سنَّة تفرَّد بها أهل المدينة، ولهم فيها إسنادان، هذا أحدهما، والآخر عن عبيد الله، عن نافه، عن ابن عمر عن النبي r قلت: أراد الحديث الذي رواه أصبغ بن الفرج، الدراوردي، عن عبيد الله عن نافع، عن ابن عمر أنه كان يضع يديه قبل ركبتيه ويقول: كان النبي r
يفعل ذلك.
رواه الحاكم في "المُستدرك" من طريق محرز بن سلمة، عن الدراوردي، وقال: على شرط مسلم وقد رواه الحاكم من حديث حفص بن غياث، عن عاصم الأحول، عن أنس قال: "رأيتُ رسول الله r انحط بالتكبير حتى سبقت ركبتاه يديه. "
قال الحاكم: "على شرطهما، ولا أعلم له علة".
قلتُ ـ يعني ابن القيم ـ: قال عبد الرحمن بن أبي حاتم: "سألت أبي عن هذا الحديث فقال: هذا الحديث منكر". انتهى
وإنما أنكره ـ والله أعلم ـ لأنه من رواية العلاء بن إسماعيل العطار، عن حفص بن غياث، والعلاء هذا مجهولٌ لا ذكر له في الكتب الستة، فهذه الأحاديث المرفوعة من الجانبين كما ترى.
¥