فالجواب: أن الدار قطني أعلى حديث شريك وضعفه، فقد قال: "تفرد به شريك، وشريك ليس بالقوي فيما يتفرد به".
فلم تذكر هذا، وقد ذكرنا قبل ذلك من ضعف حديث شريك فلو تقاوما
لقُدِّم حديث أبي هريرة على حديث وائل بن حجر على نحو ما سبق ذكره، والحمد لله.
الوجه الرابع:
قولك: "على تقدير ثبوت حديث أبي هريرة، فقد ادعى فيه جماعة من أهل العلم النسخ ... ".
فالجواب: أن الذي ادعى النسخ هو ابن خزيمة، واحتج على ذلك بحديث منكر ضعيف جداً، أخرجه في "صحيحه" (1/ 319)، والبيهقي (1/ 100)، والحازمي في "الاعتبار" (ص 162) من طريق إبراهيم بن إسماعيل بن يحيى بن سلمة بن كهيل، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن مصهب بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه، قال: "كنا نضع اليدين قبل الركبتين، فاُمِرنا بالركبتين قبل اليدين".
وإسناده ضعيف جداً.
وإبراهيم بن إسماعيل، قال ابن نمير، وابن حبان:
"في روايته عن أبيه بعض المناكير".
وقال العقيلي: "لم يكن يقيم الحديث".
وأبوه إسماعيل: "تركه الدارقطني، والأزدي".
وجدُّه: يحيى بن سلمة، تركه النسائي.
وقال أبو خاتم وغيره: "مُنكر الحديث".
وقال ابن معين: "لا يكتب حديثه".
وقد ألمح ابن المنذر إلى رد كلام ابن خزيمة، فقال في "الأوسط" (3/ 167): وقد زعم بعض أصحابنا أن وضع اليدين قبل الركبتين منسوخ وقال هذا القائل: "حدثنا إبراهيم بن إسماعيل ... " وساق إسناد ابن خزيمة السابق.
وقال الحافظ في "الفتح" (2/ 291):
"وقد ادعى ابن خزيمة النسخ، ولو صح حديث النسخ لكان قاطعاً للنزاع، لكنه من أفراد إبراهيم بن إسماعيل بن سلمة بن كهيل، عن أبيه
وهما ضعيفان".
وقال الحازمي:
"أما حديث سعد، ففي إسناده مقال، ولو كان محفوظاً، لدل على النسخ، غير أن المحفوظ: حديث التطبيق، والله أعلم".
وقال النووي في "المجموع" (3/ 422):
"لا حجة فيه؛ لأنه ضعيف".
* قُلتُ: فنخلص من كلام هؤلاء العلماء إلى أن هذا الحديث وَهَمٌ غير محفوظ، وإنما المحفوظ هو ما رواه مصعب بن سعد، قال: "صليت إلى جنب أبي، فطبَّقتُ بين كفيَّ، ثم وضعتهما بين فخذيَّ، فنهاني أبي وقال: كنا نفعله فنهينا عنه وأمرنا أن نضع أيدينا على الركب".
أخرجه البخاري (2/ 273)، ومسلم (535/ 29)، وأبو عوانة (2/ 182) وأبو داود (767)، والنسائي (2/ 185)، والترمذي (259)، وابن ماجة (873)، والدارمي (2/ 298)، وأحمد (1/ 182)، والطيالسي (207)، وعبد الرزاق (2/ 152)، وابن أبي شيبة (1/ 244) كلاهما في "المصنف"، والحميدي (79)، والهيثم بن كليب (ق14/ 1) كلاهما في "المسند" والدورقي في "مسند سهد" (ق9/ 2)، والبزار (97 ـ مسند سهد)،
وابن خزيمة (1/ 302)، والطحاوي في "شرح المعاني" (1/ 230)، والبيهقي (2/ 83، 84)، والحازمي في "الاعتبار" (ص 234) من طريقين، عن مصعب بن سعد، عن أبيه وقد اعترف ابن القيم بكل هذا الذي تقدم، ثم هو بعدُ يذكرُ دعوى النسخ!! وقد تبين ذلك أنها كسرابٍ بقيعة!
الوجه الخامس:
قولك: "أنه المتواتر لنهي النبي r عن بروك البعير ... "
فالجواب: أن ابن القيم وصف بروك البعير بقوله: إن البعير إذا برك فإنه يضع يديه أولاً ... إلخ" ونتساءل: كيف يقال: يضع يديه، ويداه موضوعتان على الأرض دائماً، إذ هو يمشي على أربع، فلو كانت يداه مرفوعتين عن الأرض مثل الإنسان، لساغ مثل هذا القول، وهذا بديهيٌ جداً، اضُطرِرت إلى تسطيره اضطراراً رفعاً للمغالطة، وحينئذٍ،
فالصواب أن يقال: إن أول ما يصل إلى الأرض من البعير إذا أراد أن يبرك .. ركبتاه، ولا نقول كما قال ابن القيم: إن أول ما يمس الأرض من البعير يداه! فإنه لا مدخل لليد ولا للرجل هنا؛ ولأن هذا القول مُلزمٌ مُفحِمٌ، حاد عنه ابن القيم رحمه الله فقال متخلصاً منه: "وقولهم: ركبة البعير في يده كلامٌ لا يعقل، ولا يعرفه أهل اللغة".
فأنت ـ أيها الإمام ـ سلَّمت أن البعير يبرك على ركبتيه، ولكنها ليست في يده، وأنكرت أن يعرف أهل اللغة ذلك، ولثقتك الكاملة في الإنكار، تبعك كل من تكلم في هذه المسألة.
والواقع أنك ـ رضي الله عنك ـ سهَّلت علينا الجواب بهذا الإنكار، إذ صار الحكم بيننا وبينك هم أهل اللغة، فهذا يعني: أن الرجوع إلى كلامهم رافعٌ للاختلاف من أُسِّه.
¥