تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

قلنا: صدقتم، ولا يُعدُ في الإجماع من قال: إن الدين غير محفوظ، وإن كثيراً من الشرائع التي أنزل الله تعالى قد بطلت واختلطت بالباطل الموضوع والموهوم اختلاطاً لا يتميز معه الرشد من الغي، ولا الحق من الباطل.

فإن قالوا: بل الفضيلة بعصمة ما أتى النبي r به من الدين باقية إلى يوم القيامة، صاروا إلى الحق الذي هو قولنا، ولله تعالى الحمد.

فإن قالوا: فإن صفة كل مخبر وطبيعته أن خبره يجوز فيه الصدق والكذب والخطأ، وقولكم بأن خبر الواحد العدل في الشريعة موجب للعلم، إحالة لطبيعة الخبر وطبيعة المخبرين، وخرق لصفات كل ذلك وللعادة فيه.

قلنا لهم: لا يُنكرُ من الله تعالى إحالة ما شاء من الطبائع إذا صح البرهان بأنه فعلُ الله تعالى. والعجب من إنكاركم هذا مع قولكم به بعينه في إيجابكم عصمة النبي r من الكذب والوهم في تبليغ الشريعة، وهذا الذي أنكرتم بعينه، بل لم تقنعوا بالتناقض إذ أصبتم في ذلك وأخطأتم في منعكم من ذلك في خبر الواحد العدل حتى أتيتم بالباطل المحض، إذ جوزتم على جميع الأمة موافقة الخطأ في إجماعها في رأيها، وذلك طبيعة في الكل وصفة لهم، ومنعتم من جواز الخطأ والوهم على ما ادعيتموه من إجماع الأمة من المسلمين خاصة في اجتهاد القياس!! وحاشا لله أن تجمع الأمة على الباطل، فخرقتم بذلك العادة وأحلتم الطبائع بلا برهان ... ". أهـ

قُلتُ: ومن ضوابط هذا الأمر أن تلقي الأمة للخبر بالقبول إجماعٌ منهم

كما تقدم، وهو أقوى في إفادة العلم من القرائن المُحتفَّة، ومن مجرد

كثرة الطرق.

وقال الشيخ أبو الأشبال أحمد بن محمد شاكر رحمه الله في "شرح ألفية السيوطي" (ص 5): "إن إفادة خبر الواحد لليقين هو الصواب، فقال: "والحق الذي ترجحه الأدلة الصحيحة ما ذهب إليه ابن حزم ومن قال بقوله من أن الحديث الصحيح يفيد العلم القطعي، سواءٌ أكان في أحد الصحيحين أم في غيرهما، وهذا العلم اليقيني علمٌ نظريٌ برهانيٌ لا يحصل إلا للمتبحر في الحديث، العارف بأحوال الرواة والعلل، وأكاد أوقن أنه هو مذهب من نقل عنهم البُلقيني ممن سبق ذكرهم، وأنهم لم يريدوا بقولهم ما أراده ابن الصلاح من تخصيص أحاديث الصحيحين لذلك، وهذا العلم اليقيني النظري يبدو ظاهراً لكل من تبحر في علم من العلوم وتيقنت نفسه بنظرياته، واطمأن قلبه إليها، ودع عنك تفريق المتكلمين في اصطلاحهم

بين العلم والظن، فإنما يريدون بذلك معنىً غير الذي نريد، ومنه زعمُ الزاعمين أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص إنكاراً لما يشعر به كل واحد من الناس من اليقين بالشيء، ثم ازدياد هذا اليقين، قال تعالى:} قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي {، وإنما الهُدى هُدى الله ... ". أهـ

الوجه الثالث:

أن الأستاذ الكاتب لم يٌفرق بين الشاهد والراوي، هذا وقد سوى بعضُ الناس بين الراوي والشاهد اعتماداً على حديث مرفوع يقول: "لا تكتبوا العلم إلا عمن تجوز شهادته".

* قلتُ: وهو حديثٌ ضعيفٌ جداً، أخرجه ابن عدي في "الكامل" والخطيب في "الكفاية" وغيرهما من طريق صالح بن حسان، عن محمد بن كعب، عن ابن عباس مرفوعاً.

قال الخطيب: "إن صالح بن حسان تفرد بروايته، وهو ممن أجمع نقاد الحديث على ترك الاحتجاج به لسوء حفظه وقلة ضبطه، وكان يروي هذا الحديث عن محمد بن كعب تارة متصلاً، وأخرى مرسلاً، ويرفعه تارة، ويوقفه أخرى". أهـ

فالحديث مُعَلٌّ بالضعف والاضطراب، وصالحٌ هذا غير صالحٍ!

فقد تركه النسائي، وقال البخاري: "منكر الحديث" وهذه العبارة في اصطلاح البخاري يعني: "لا تحل الرواية عنه" وضعفه أحمد وابن معين في آخرين، ولا يزال أهل العلم يفرقون بين الراوي والشاهد، فإنه تصح من الواحد، والمرأة، والعبد، ولأن الرواية والشهادة تدخلان في باب الخبر، فقد التبس تمييز أحدهما عن الآخر على الإمام شهاب الدين القرافي، فقال في "الفروق" (1/ 4): "الفرق الأول بين الشهادة والرواية، ابتدأتُ بهذا الفرق بين هاتين القاعدتين لأني أقمتُ أطلبه نحو ثمان سنين فلم أظفر به، وأسأل الفضلاء عن الفرق بينهما".

ثم وجد ضالته في "شرح البرهان" للمازري رحمه الله، حيث قال: "الشهادة والرواية خبران، غير أن المخبر عنه إن كان أمراً عاماً لا يختص بمعين فهو الرواية، كقوله r : " إنما الأعمالُ بالنيات"، والشُّفعة فيما لا يُقْسَمُ، لا يختص بشخص معين، بل ذلك على جميع الخلق في جميع الأعصار والأمصار بخلاف قول العدل عند الحاكم: "لهذا عند هذا دينارٌ"، إلزامٌ لمعين لا يتعداه إلى غيره، فهذا هو الشهادة المحضة، والأول: هو الرواية المحضة، ثم تجتمع الشوائب بعد ذلك". أهـ

ثم ساق كلاماً طويلاً يجدر أن يراجع، مع تعليل أبي القاسم بن الشاط رحمه الله، ففيه نفائسُ.

والمسألة تحتمل البسط، وفيما ذكرته كفاية لمن قنع وترك المراء، وقد ظهر مما مر من البيان أن ما اعترض به الأستاذ الكاتب على عدم الاعتداد بخبر الواحد ليس فيه سلفٌ من الصحابة، ولا التابعين، ولا الأئمة المتبوعين، إنما هو لبعض المتأخرين من أهل الاعتزال، وغيرهم ممن لا يُعوَّلُ عليهم كما مر قريباً، فيذهب ما قعقع به الأستاذ الكاتب حول خبر الواحد كضرطة عيرٍ بفلاةٍ!!

************

10

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير