وله في كل ذلك نكت حديثية دقيقة بديعة!، ومن هنا يُعلم أنّ وصفَ حديثٍ ما بأنه على شرط الشيخين أو شرط البخاري أو مسلم أمرٌ في غاية الصعوبة، وقد قال ابن الأخرم ـ وهو من كبار الحفاظ-: «قلَّ ما يفوت البخاري ومسلم حديث على شرطهما»، وقال ابنُ حجر: «وقرأتُ بخط بعض الأئمة أنه رأى بخط عبد الله بن زيادن المسكي قال: أملى على الحافظ أبومحمد عبد الغني بن عبد الواحد بن علي بن سرور المقدسي سنة خمس وتسعين وخمسمائة قال: نظرت إلى وقت إملائي عليك هذا الكلام فلم أجد حديثاً على شرط البخاري ومسلم لم يخرجاه إلا أحاديث:
1 - حديث أنس"يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة".2 - وحديث الحجاج بن علاط لما أسلم. 3 - وحديث علي "لا يؤمن العبد حتى يؤمن بأربع"» النكت لابن حجر (1/ 313). ولابن عبد البر كلامٌ نحو هذا.
قال ابن عبد الهادي: «واعلم أن كثيرا ما يروي أصحاب الصحيح حديث الرجل عن شيخ معين لخصوصيته به ومعرفته بحديثه وضبطه له ولا يخرجون حديثه عن غيره لكونه غير مشهور بالرواية عنه ولا معروف بضبط حديثه أو لغير ذلك فيجيء من لا تحقيق عنده فيرى ذلك الرجل المخرج له في الصحيح قد روى حديثا عمن خرج له في الصحيح من غير طريق ذلك الرجل فيقول هذا على شرط الشيخين أو على شرط البخاري أو على شرط مسلم لأنهما احتجا بذلك الرجل في الجملة وهذا فيه نوع تساهل فإن صاحبي الصحيح لم يحتجا به إلا في شيخ معين لا في غيره فلا يكون على شرطهما» الصارم المنكي في الرد على السبكي (ص256)
4. ومما ينبغي التفطن له أنّ من منهج الإمامِ البخاريّ في الرواية عن شيوخه المتكلم فيهم أنْ ينتقي من أصولهم ما صحَّ من حديثهم، ومما يدل على ذلك:
- قول البخاريّ: ((كَانَ إسماعيلُ بنُ أبي أُويس إذا انتَخَبتُ مِنْ كِتابهِ، نَسَخَ تلك الأحاديثَ لنفسِهِ، وَقَالَ: هذه الأحاديثُ انتخبها مُحَمَّد بنُ إسماعيل مِنْ حَدِيثي)). انظر:"تاريخ بغداد" (2/ 19)، "تاريخ مدينة دمشق" (52/ 77).
- وقول البخاريّ أيضاً: قَالَ لي مُحَمَّد بنُ سَلاَم: انظرُ في كتبي فما وجدتَ فيها من خطأ فاضرب عليه كي لا أرويه، فَفَعلتُ ذلكَ. "تاريخ مدينة دمشق" (52/ 77)، "مقدمة فتح الباري" (ص483).
- قول الحافظ ابن حجر في "مقدمة الفتح" (ص391): ((روينا في "مناقبِ البخاريِّ" بسندٍ صحيحٍ أنّ إسماعيلَ أخرج له أصوله، وأذن له أن ينتقي منها، وأنْ يعلمَ لهُ على ما يحدث به ليحدث به، ويعرض عما سواه، وهو مشعرٌ بأنَّ ما أخرجه البخاريُّ عنه هُو مِنْ صحيحِ حديثه لأنه كتب من أصوله، وعلى هذا لا يحتج بشيء من حديثه غير ما في الصحيح من أجل ما قدح فيه النسائي وغيره إلا أن شاركه فيه غيره فيعتبر فيه)).
-وقال أيضاً في "النكت على كتاب ابن الصلاح" (1/ 288): ((الذينَ انفردَ بهم البخاريُّ ممنْ تُكُلمُ فيهِ أكثرهُمْ مِنْ شيوخهِ الذينَ لَقِيهم، وَعَرَفَ أحوالَهُم، وَاطلع عَلَى أحاديثهم فميّز جيدها مِنْ رديها بخلافِ مُسلم، فإنَّ أكثرَ مَنْ تفردّ بتخريجِ حَدِيثه ممن تُكُلمُ فيه مِنْ المتقدمين، وقد أخرج أكثر نسخهم كما قدمنا ذكره. ولا شكَ أنَّ المرءَ أشدّ معرفة بحديثِ شيوخهِ، وبصحيحِ حَدِيثهم مِنْ ضعيفه ممن تقدم عَنْ عصرهم)).
وقال نحوه في "مقدمة الفتح" (ص12). وانظر: "مقدمة الفتح" (ص387، 388، 413)، "فتح المغيث" (1/ 29).
وكذلك الانتقاء من منهج مسلم في صحيحه قال ابن القيم: «ولا عيب على مسلم في إخراج حديثه لأنه ينتقي من أحاديث هذا الضرب ما يعلم أنه حفظه كما يطرح من أحاديث الثقة ما يعلم أنه غلط فيه فغلط في هذا المقام من استدرك عليه إخراج جميع حديث الثقة ومن ضعف جميع حديث سئ الحفظ فالأولى: طريقة الحاكم وأمثاله والثانية: طريقة أبي محمد بن حزم وأشكاله وطريقة مسلم هي طريقة أئمة هذا الشأن والله المستعان»
قلتُ: وَمَنهجُ انتقاء ما صحَّ من مرويات المجروحين مما في أصولهم منهجٌ لكبار نقاد الحديث؛ ومما يدل على ذلك: قولُ البرذعيّ رأيتُ أبا زُرْعةَ يسيىءُ القولَ فيه-أي في سُوَيد بنِ سَعِيد- فقلتُ له: فأيش حَاله؟ قَالَ: أمَّا كُتُبهُ فَصِحَاحٌ، وكنتُ أتتبعُ أصولَهُ وَأكتبُ مِنْها، فَأمَّا إذا حدّثَ مِنْ حفظهِ فلا. سؤالات البرذعي (ص409).
¥