فانظر كيف أنَّ الحافظ ابن حجر قد عالج مقولة أبي داود وسكوته من جانبين، أولهما: أن عدداً من الأحاديث المسكوت عليها هو من قبيل الضعيف، بله الضعيف جداً لوجود الرواة المتروكين في أسانيدها، وثانياً من حيث أن أبا داود يقدم الحديث الضعيف على القياس، كما هو مذهب الإمام أحمد، ولعل كثيراً من المسكوت عليه هو عنده صالح للاحتجاج حتى ولو كان ضعيفاً في مقابلة الرأي.
أما بالنسبة لصنيع الحافظ عبد الحق فقد وجد تتبعاً شاملاً من الإمام المبدع ابن القطان الفاسي في كتابه العجاب ((بيان الوهم والإيهام الواقعين في كتاب الأحكام)) وانتقد مئات من الأحاديث التي سكت عليها عبد الحق وبيَّن ضعفها
ـ[لطفي بن محمد الزغير]ــــــــ[13 - 04 - 05, 08:13 ص]ـ
والذي دعاني لهذا الطرح ما رأيته من صنيع بعض من يتعاطى العلم وعنده دغلٌ أو هوى فإذا كان الحديث يوافق ما يريد ويهوى تراه يختبأ وراء هذا التعميم، حتى لو تأكد له عدم صحة ما يقول وذكر أنَّ فلاناً سكت عنه وهو عنده صحيح، إما إذا كان يخالف هواه فتراه يجهد في رده ولا يقبل هذه الأحكام، بل والأسوأ من ذلك أن يستنبط من السكوت التصحيح، ومن التصحيح توثيق الرواة الذين وردوا في الإسناد جميعاً، وهذا لعمري ليس من سلوك أهل العلم ولا طريقة أهل الحديث.
ومن أمثلة ما ذكرتُ آنفاً ما انتهى إليه محمود سعيد في كتابه ((رفع المنارة في تخريج أحاديث التوسل والزيارة)) في أثناء كلامه على حديث ((من زار قبري وجبت له شفاعتي)): (ص 229) ط الأولى، (ص280) ط الثانية، فقال: وقد صححه عبد الحق الإشبيلي، وصححه أو حسنه السبكي، والسيوطي في مناهل الصفا في تخريج أحاديث الشفا،
بل إنَّ ما عزاه لعبد الحق لا يصح البتة وقد استنتج هذا من سكوته، ولهذا تعقبه الحافظ ابن القطان في (بيان الوهم: 4/ 324): ((هكذا سكت عنه وأراه تسامح فيه لأنه من الحث والترغيب على عمل .... وإلى هذا فإن العمري قد عهد أبو محمد رد الأحاديث من أجله)) ومن الأحاديث التي انتقدها عبد الحق لأجل العمري هذا ((إنما النساء شقائق الرجال))، قال عبد الحق في الأحكام الوسطى (1/ 192) هذا يرويه عبد الله بن عمر العمري وليس بقوي في الحديث، وقارن بما ذكره ابن القطان 4/ 198، وقال في الأحكام الوسطى (1/ 266) في حديث ((أول الوقت رضوان الله)) هذا يرويه عبد الله بن عمر العمري وقد تكلم فيه، وذكّره ابن القطان في نفس الصفحة بأنه رد الحديث من أجل العمري، وقال بعد روايته لحديث ((إذا نكح العبد بغير إذن سيده فنكاحه باطل)) (3/ 135): عبد الله العمري هذا هو ضعيف عند أهل العلم.
وبهذا يتنبين أن سكوت عبد الحق ليس تصحيحاً للحديث كما ذكر محمود سعيد، وإنما هو تساهل منه كما ذكر ابن القطان، أو ذكره للرجل أكثر من مرة وتضعيفه أغنى عن إعادته، وعلى أي وجه لا يصح أن نقول أن عبد الحق صححه.
وأسوأ من ذلك أن نستنبط من السكوت تصحيحاًً للحديث، ومن التصحيح توثيقاً للرواة الذين وردت أسماؤهم في السند، وهذا ما ذهب إليه محمود سعيد في (رفع المنارة: ص 315) ط الثانية حيث قال: ((وقد صحح له ابن السكن، وهو يعني توثيقه))، مع أن ابن السكن سكت على الحديث كما بين ذلك السبكي واستنبط منه أنه صححه، فهل يحق لنا أن نقوِّل العلماء ما لم يقولوا؟؟
أما فيما يتعلق بأبي داود فإني تتبعت عدداً من الأحاديث التي سكت عنها ووجدتها كما قال الحافظ ابن حجر يرحمه الله، وسأورد منها نماذج وكل نموذج منها له نظائر كثيرة، فمن ذلك ما أخرجه أبو داود في السنن رقم (388) من طريق أم يونس بنت شداد، عن حماتها أم جحدر العامرية أنها سألت عائشة عن دم الحيض يصيب الثوب فقالت: كنت مع رسول الله ? ..... )). وسكت عنه أبو داود، وأم يونس وحماتها مجهولتان، ومع ذلك سكت عنه أبو داود.
وروى في السنن رقم (594) عن مكحول عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ? ((الصلاة واجبة على كل مسلم براً كان أو فاجراً وإن عمل الكبائر))، وهذا الحدبث خرجه ابن حجر في ((الدراية)) وقال: رواه الدارقطني وقال: مكحول لم يلق أبا هريرة. فهو منقطع إذاً وسكت عنه أبو داود أيضاً.
وروى في السنن أيضاً رقم (802) من طريق محمد بن جحادة عن رجل عن عبد الله بن أبي أوفى ((أنَّ النبي ? كان يقوم في الركعة الأولى من صلاة الظهر حتى لا يسمع وقع قدم))، وواضح أن في هذا الحديث رجل لم يُسم، ومع ذلك سكت عليه أبو داود.
وروى في السنن أيضاً رقم (5234) من طريق ابن كنانة بن عباس بن مرداس السلمي عن أبيه عن جده ((ضحك رسول الله ? فقال له أبو بكر أضحك الله سنك)) وساق الحديث، وسكت عنه أبو داود، وفيه ابن كنانة بن عباس السلمي، روى البخاري حديثه هذا وقال: لا يصح، وجرح ابن حبان ابن كنانة وأباه جرحاً شديداً (المجروحين: 2/ 229)، وأورد ابن الجوزي هذا الحديث في الموضوعات ورد ذلك ابن حجر (القول المسدد:36) وقال: لا يلزم من كون الحديث لم يصح أن يكون موضوعاً. ونحن مع ابن حجر في عدم الحكم على هذا الحديث بالوضع لكني أردت أن أبين أنَّ مما سكت عليه أبو داود حكم عليه البعض بالوضع وهذا ينطبق على أحاديث أخرى لعلي أذكرها إن لزم الأمر.
وبناء على ما مرَّ فإنَّ سكوت العلماء وإن كان السكوت داخلاً في شرطهم لا يعد تصحيحاً للحديث وتحسيناً، ومن أراد أن يسلك هذا السلوك فليجعله منهجاً مضطرداً، ويكتفي بتقليد من سبق، ويعترف بقصور النظر عن إدراك الصحة والحسن، لا أن يجعل نفسه حافظ الزمان عندما يريد توثيق من لم يوثق، ونراه تلميذاً مقلدا عندما يجد فلاناً أو علاناً ذهب إلى ما يوافق مشربه.
¥