وخلاصته أن الناقد في عصر النقد يحكم على الراوي بوسائل متعددة،منها النظر في حديثه، وهي أهم وسيلة لدى الناقد وأكثرها استعمالا
فالحكم على الراوي فرع على النظر في حديثه، وأما المتأخر فالحكم على الحديث فرع عن درجة الراوي المتقررة سابقا، فالصورة مقلوبة إذن، والجنين نزل من قبل رجليه.
فالناقد نظر في أحاديث الراوي مقارنا لها بما لديه من مخزون عظيم من أحاديث الرواة الأخرين
فما وافق فيه غيره كان لصالح الراوي دالا على ثقته وضبطه
وما خالف فيه غيره أو تفرد به ينظر فيه الناقد فما عدّه خطأ أو منكرا حكم عليه بذلك ثم تكون الموازنة بين ما أصاب فيه وما أخطأ فيه
فإن كان الغالب عليه الصواب وأخطأ أو تفرد بأشياء منكرة قليلة فهذا يوثقه الناقد، مع بقاء حكمه على ما أخطأ فيه أو استنكره عليه، لم يغيره كونه عنده ثقة
وإن كان الغالب عليه الخطأ والتفرد بما يستنكر ضعّفه الناقد، مع بقاء حكمه عليه فيما وافق عليه غيره فيصلح للاعتبار والاعتضاد، إن لم تكن أخطاؤه فاحشة جدا يصل بها إلى حد الترك.
وربما جاء عن الناقد حكمه على بعض حديث الراوي بالنكارة أو الخطأ قبل استكمال النظر في حال الراوي، ورب حديث استنكره النقاد، ثم اختلفوا بعد ذلك في عهدة النكارة ومن يتحملها؟ ورب حديث يستنكره الناقد ولا يدري ممن الوهم والخطأ.
هذه صورة مبسطة للنظر في الراوي وحديثه، يمكن من خلالها تصور عمل النقاد في استنكار أحاديث على الثقات ومن في حكمهم ويمكن توضيح ذلك بالأمثلة.
فمن ذلك ما رواه نوفل بن المطهر قال: (كان بالكوفة رجل يقال له حبيب المالكي، وكان رجلا له فضل و صحبة فذكرناه لابن المبارك فأثنينا عليه، قلت: عنده حديث غريب، قال ما هو؟ قلت: الأعمش عن زيد بن وهب قال (سالت حذيفة عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لحسن، ولكن ليس من السنة أن تخرج على المسلمين بالسيف) فقال هذا حديث ليس بشيء، قلت له: إنه، وإنه، فابى، فلما أكثرت عليه في ثنائي عليه، فقال: عافاه الله في كل شيء إلا في هذا الحديث ن هذا حديث كنا نستحسنه من حديث سفيان عن حبيب، عن أبي البختري عن حذيفة) (1)
وفي رواية أخرى عن ابن المبارك أنه قيل له: إنه شيخ صالح، فقال ابن المبارك (هو صالح في كل شيء إلا في هذا الحديث) (2)
فنكارة الحديث لم تزل عند المبارك بثنائهم على هذا الرجل وأنه صالح وذلك أنه يعرف انه قد تفرد به سفيان بالإسناد الآخر، فقوله (كنا نستحسنه من حديث سفيان) أي نستغربه.
وسئل احمد عن حديث ابن المبارك عن مالك بن أنس عن ابن المنكدر عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم (من جلس إلى قينة صبَّ في أذنة الآنك يوم القيامة)، وقيل له: رواه رجل بحلب، وحسنوا الثناء عليه، فقال: (هذا باطل) (3)
فالحديث باطل عند أحمد ولم يلتفت على الثناء على من رواه، ولم يسأل عنه من هو؟
وروى الهذيل بن الحكم عن عبد العزيز بن أبي رواد عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم (موت الغريب شهادة) (4)
والهذيل بن الحكم هذا قال فيه البخاري، وابن حبان: (منكر الحديث) زاد ابن حبان (جدا) (5)، وقال العقيلي (لايقيم حديثه) (6)، واما ابن معين فإنه قواه، قال الجنيد: (سألت يحيى بن معين عن الهذيل بن الحكم ن فقال: قد رايته بالبصرة وكتبت عنه ولم يكن به بأس، قلت: ما روى عن عبد العزيز بن أبي رواد ... ، قال يحيى: هذا حديثه الذي كا يسال عنه ليس هذا الحديث بشيء، هذا حديث منكر) (7)
فهذا الحديث منكر عند الجميع من ضعف الهذيل ومن قواه والذي قواه هو ابن معين ولم يمنعه من استنكار الحديث كون المتفرد ليس به بأس عنده.
وروى عمرو بن أبي عمرو المدني عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به) (8)، وهذا الحديث استنكره جماعة من النقاد، فنقل ابن رجب عن أحمد قوله (كل أحاديثه عن عكرمة مضطربة)، ثم قال ابن رجب: (لكنه نسب الاضطراب إلى عكرمة، لا إلى عمرو) (9)
وقال ابن معين: (ثقة ينكر عليه حديث عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (اقتلوا الفاعل والمفعول ببه) (10)
¥