وتسد بهم الثغور، وتتقى بهم المكاره، ويموت أحدهم وحاجته في صدره، لا يستطيع لها قضاء، قال: فتأتيهم الملائكة عند ذلك، فيدخلون عليهم من كل باب (سلامُ عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار) (الرعد:24).
فأعمال هؤلاء وجهادهم وبذلهم وإيمانهم من ناحية، وصبرهم ورضاهم على قلة المال، حتى أن أحدهم يموت وحاجته في صدره، لا يستطيع لها قضاء. فالفقر -إذن- لا يكون بإطلاقه سببًا للفضل، بل الفقر إن كان المبتلى به صابرًا راضياً له درجة صبره ورضاه، وقد وعد الله سبحانه الصابرين بقوله تعالى: (إنما يُوفّى الصابرون أجرهم بغير حساب) (الزمر:10). كما أن الغنى -كذلك- لا يكون سببًا للمذمة أو المدح، إلا بما يقترن به من أعمال وأحوال، فمن ابتلي بالغنى فشكر وصبر نفسه مع الغنى على ما أمر كان الغنى محمودًا.
ويتفاضل الناس بما جعله الله ميزانًا للتفاضل (إنّ أكرمكم عند الله أتقاك م) (الحجرات:13).
يتضح ذلك -أيضًا- في رواية أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا ذر، أترى كثرة المال هو الغنى؟ " قلت: نعم يا رسول الله، قال: "فترى قلة المال هو الفقر؟ "قلت: نعم يا رسول الله، قال: "إنما الغنى غنى القلب، والفقر فقر القلب" ثم سألني عن رجل من قريش، قال: "هل تعرف فلانًا؟ " قلت نعم يا رسول الله، قال: "فكيف تراه، أو تُراه؟ " قلت: إذا سأل أُعطي، وإذا حضر أُدخل، قال: ثم سألني عن رجل من أهل الصفة، فقال: "هل تعرف فلانًا؟ " قلت: لا والله يا رسول الله، فما زال يُجلّيه وينعته حتى عرفته، فقلت: قد عرفته يا رسول الله، قال: "فكيف تراه، أو تُراه؟ " قلت: هو رجل مسكين من أهل الصفة، فقال: "هو خير من طلاع الأرض من الآخر". قلت: يا رسول الله، أفلا يعطى من بعض ما يُعطى الآخر؟ قال: "إذا أُعطي خيرًا فهو أهله، وإذا صُرف عنه فقد أٌعطي حسنة " ..
فغنى القلب، وفقر القلب، وما يتبعهما من سلوك، هو أساس الفضل والخيرية، وعلى ذلك إذا ذكر الفقراء بالمدح فالتقييد لهذا الإطلاق بما جاء في الأحاديث الأخرى من مواصفات التفضيل والتقديم، وكذلك إذا ذكر الأغنياء بالذم فإنما بما يصحب الغني من كفران النعمة، أو استعمالها في الفخر والكبر، أو منع ما في المال من حقوق، أو ما يتبع الكثرة من الحساب؛ من أين اكتسبه، وفيم أنفقه؟
وعلى هذا يفهم الحديث الثالث، الذي أورده الإمام البخاري رحمه الله في فضل الفقر، والذي رواه عمران بن حصين رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اطلعت على أهل الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء، واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء ".
فهو تقرير لما يكون، وليس لبيان علة دخول الجنة أو النار، وهو كذلك تحذير من طغيان المال، وتصبير لمن ابتلوا بالفقر، حتى يجدّوا في الصالحات، وتنبيه للنساء حتى لا يكفرن العشير.
وأما الحديثان الأخيران في الباب فيتعلقان بحياة النبي صلى الله عليه وسلم، والتي كان فيها قدوة للناس أجمعين، والذي يعنينا -هنا- أنه صلى الله عليه وسلم قدوة للأغنياء حيث كان يجتمع أمامه المال الكثير، فلا يمضي وقت يسير إلا وقد وجد المال طريقه إلى الناس.
وهو قدوة للفقراء، كيف يصبرون، وكيف يرضون، فلم يختر لنفسه حياة المترفين، وفي الوقت نفسه بيّن للناس كيف أحل الله الطيبات من الرزق.
فتذكر رواية أنس -في الباب نفسه- رضي الله عنه قال: "لم يأكل النبي صلى الله عليه وسلم على "خوان" حتى مات، وما أكل خبزًا مُرققًا حتى مات ".
والرواية الأخيرة في الباب لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: "لقد توفي النبي صلى الله عليه وسلم وما في رَفّي من شيء يأكله ذو كبد، إلا شَطْرُ شعير في رفّ لي، فأكلت منه حتى طال عَليّ فكلتُه فَفَنِيَ".
فهذا ما اختاره النبي صلى الله عليه وسلم من حياة العبودية لله سبحانه، وعدم الترف فيجوع يومًا ويشبع يومًا؛ ليكون قدوة للجائع كيف يتوجه ويدعو، وللشبعان كيف يحمد ويشكر.
فأحاديث الباب - إذن - توجه إلى ما يصحب حالة الفقر من الصبر والرضى، والخفة التي تدفع إلى الهمة والنشاط في الطاعة والمسارعة في الخيرات.
¥