ولهذا قال ابن رجب متعقباً الخطيب البغدادي: (ثم إن الخطيب تناقض فذكر في كتاب (الكفاية) للناس مذاهب في اختلاف الرواة في إرسال الحديث ووصله كلها لا تعرف عن أحد من متقدمي الحفاظ، إنما هي مأخوذة من كتب المتكلمين).
3_ الترجيح في بعض مسائل علوم الحديث بما رجحه الفقهاء والأصوليون، وليس بما رجحه المحدثون مع العلم بذلك، والتصريح به ..
ولهذا الأمر أمثلة كثيرة: أشهرها مسألة زيادة الثقة. فكثير من المتأخرين رجحوا القول بقبول زيادة الثقة مطلقاً، وهو ما رجحه أئمة الفقه والأصول ..
ومنهم من كان يرجح مذهب أهل الحديث، إلا أنه في التطبيق يخالف ما قرره ورجحه!
قال ابن رجب مبيناً مذهب الخطيب البغدادي في هذه المسألة: (ثم إنه اختار أن الزيادة من الثقة تقبل مطلقاً، كما نصره المتكلمون وكثير من الفقهاء، وهذا يخالف تصرفه في كتابه (تمييز المزيد)! ... ) (51).
وقال مبيناً مذهب الحاكم في هذه المسألة: (وذكر الحاكم أن أئمة الحديث على أن القول قول الأكثرين الذين أرسلوا الحديث. وهذا يخالف تصرفه في المستدرك!) (52).
وقال ابن الصلاح أيضاً _ في مسألة تعارض الوصل والإرسال _: (ومنهم من قال: الحكم لمن أسنده إذا كان عدلاً ضابطاً، فيقبل خبره وإن خالفه غيره، سواء كان المخالف له واحداً أو جماعة. قال الخطيب: هذا القول هو الصحيح.
(ثم قال ابن الصلاح): (وما صححه هو الصحيح في الفقه وأصوله) (53).
4_ عدم تقدير أحكام أئمة النقد على الأحاديث وإجلالها، والتسرع في مخالفتها، بل وتخطئتها بتخطئة قواعدهم التي قادتهم إلى هذا الحكم.
وله أمثلة كثيرة، وسيأتي ذكر مثال واضح على هذا الأمر.
ومع اجتماع هذه الأخطاء (وهي أخطاء منهجية) وتزايدها فقد حصل تباين ملحوظ بين أحكام كثير من المحدثين المتأخرين مع أحكام أئمة الحديث المتقدمين، فوجد منهم من ضعف ما صححوه، أو صحح ما أعلوه، بل ما نقل الإجماع على إعلاله، ومن أمثلة ذلك:
_ ما أخرجه الترمذي قال: حدثنا هناد حدثنا محمد بن فضيل عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن للصلاة أولاً وآخرا، وإن أول وقت صلاة .. الحديث).
فهذا الحديث تفرد بروايته محمد بن فضيل عن الأعمش بالإسناد السابق.
وخالفه ثلاثة من الثقات من أصحاب الأعمش وهم (زائدة بن قدامة وعبثر بن القاسم وأبوإسحاق الفزاري) فرووه عن الأعمش عن مجاهد من قوله.
ولذا أعل رواية محمد بن فضيل جمع كثير من أئمة الحديث المتقدمين، منهم: ابن معين، ومحمد بن عبدالله بن نمير، والبخاري، وأبوحاتم الرازي، والبزار، والعقيلي، والدارقطني.
بل قال ابن عبدالبر: (هذا الحديث عند جميع أهل الحديث حديث منكر، وهو خطأ،لم يروه عن الأعمش بهذا الاسناد إلا محمد بن فضيل، وقد أنكروه عليه) (54).
ومع توارد الأئمة المتقدمين على إعلال هذه الرواية، واتفاقهم على إعلالها كما قال ابن عبدالبر (هذا الحديث عند جميع أهل الحديث حديث منكر)، إلا أنك إذا نظرت إلى حكم المتأخرين على هذه الرواية فإنك تجدهم على خلاف حكم المتقدمين عليها:
_قال ابن حزم في المحلى _ بعد احتجاجه به _: (لم يخف علينا من تعلل في حديث أبي هريرة بأن محمد بن فضيل أخطأ فيه، وإنما هو موقوف على مجاهد، وهذا أيضاً دعوى كاذبة بلا برهان!، وما يضر اسناد من أسند، إيقاف من أوقف) (55).
_ وقال ابن الجوزي _ بعد ذكره لمن أعل الحديث _: (ابن فضيل ثقة، ويجوز أن يكون الأعمش قد سمعه من مجاهد مرسلاً، وسمعه من أبي صالح مسنداً) (56).
_ وقال ابن القطان الفاسي: (وعندي أنه لا بعد في أن يكون عند الأعمش في هذا عن مجاهد أو غيره مثل الحديث المرفوع، وإنما الشأن في رافعه وهو محمد بن فضيل، وهو صدوق من أهل العلم، وقد وثقه يحيى بن معين) (57).
_ وقال الشيخ أحمد شاكر _ بعد أن نقل إعلال جماعة من الأئمة لهذا الحديث _: (وهذا التعليل منهم خطأ، لأن محمد بن فضيل ثقة حافظ .. (ثم أورد كلام ابن حزم وابن الجوزي وابن القطان) ثم قال: والذي أختاره أن الرواية المرسلة أو الموقوفة تؤيد الرواية المتصلة المرفوعة ولا تكون تعليلاً لها أصلاً) (58).
¥