(فمن نظر في كتب الرجال ككتاب ابن أبي حاتم----والكامل لابن عدي والتهذيب وغيرها ظفر بألفاظ كثيرة؛ ولو اعتنى بارع بتتبعها ووضع كل لفظة بالمرتبة المشابهة لها مع شرح معانيها لغة واصطلاحاً لكان حسناً؛ وقد كان شيخنا [يعني ابن حجر] يلهج بذكر ذلك فما تيسر؛ والواقف على عبارات القوم يفهم مقاصدهم، لما عُرف من عباراتهم في غالب الأحوال، وبقرائن ترشد إلى ذلك).
وقال العلامة المعلمي في (التنكيل) (ص257 - 258) في أثناء بيانه للأمور التي ينبغي أن يراعيها من أراد أن يعرف أحوال الرواة:
(ليبحث عن رأي كل إمام من أئمة الجرح والتعديل واصطلاحه مستعيناً على ذلك بتتبع كلامه في الرواة واختلاف الرواية عنه في بعضهم، مع مقارنة كلامه بكلام غيره----).
وقال المعلمي أيضاً في مقدمته لكتاب (الفوائد المجموعة) (ص9):
(صيغ الجرح والتعديل كثيراً ما تطلق على معانٍ مغايرة لمعانيها المقررة في كتب المصطلح؛ ومعرفة ذلك تتوقف على طول الممارسة واستقصاء النظر).
[(((هامش))) وقال المعلمي هناك أيضاً: (القواعد المقررة في مصطلح الحديث منها ما يذكر فيه خلاف ولا يحقق الحق فيها تحقيقاً واضحاً، وكثيراً ما يختلف الترجيح باختلاف العوارض التي تختلف في الجزئيات كثيراً؛ وإدراك الجق في ذلك يحتاج إلى ممارسة طويلة لكتب الحديث والرجال والعلل، مع حسن الفهم وصلاح النية)].
وقال مؤلفا (تحرير التقريب) (1/ 43 - 44) عقب شئ ذكراه: (وهذا يدل من غير شك أن أهل العلم لم يتفقوا على تعابير بعينها في تلك الأعصر، مما يتعين دراسة ألفاظ كل عالم منهم على حدة وتحديده مراده من ألفاظه، وكثير من هذه الألفاظ هي ألفاظ وصفية لا إصطلاحية).
قلت: هذا تنبيه جيد صحيح.
(87)
وجوب التنبه إلى كيفية استعمال المحدث للكلمة الاصطلاحية
ينبغي التنبه إلى أن بعض العلماء كانوا أحياناً يستعملون الكلمة الاصطلاحية - أعني الكلمة التي لها معنى اصطلاحي بالإضافة إلى معناها اللغوي - يريدون بها معناها اللغوي، لا الاصطلاحي؛ ومنهم الحافظ الذهبي، قال قاسم علي سعد في (مباحث في علم الجرح والتعديل) (ص93) عقب ذكره ألفاظ التعديل عند الذهبي ضمن تراجم الميزان: (هذا، وقد يذكر الذهبي ألفاظاً عدة في الترجمة الواحدة وبين تلك الألفاظ بون واسع فيقصد بها أحياناً المعنى لا المصطلح الدقيق، وكذلك يفعل في التجريح، وقد اقتصرت على ما قصد به المصطلح).
(88)
التحذير من طريقة كثير من المتأخرين في شرح الاصطلاحات
من طريقة هؤلاء المبالغة في تكثير المصطلحات بلا حاجة، والحرص على تقسيمها تقسيماً منطقياً، ولو بتكلف، وتحديدها، كذلك، وحمل كلام المتقدم على اصطلاح المتأخر، وكثرة التدقيق والمناقشات في الحدود والتعريفات والألفاظ والعبارات.
ولقد كانت هذه المسالك، ولم تزل، من أضر المسائل على أهل العلم، ومن أقوى الأمور التي وعرت طريق المعرفة على الناس؛ وكان الاشتغال الزائد بذلك كله سبباً في التقصير في تحقيق القواعد وفي استقراء ما يكون سبباً في التوصل إلى العلم النافع الصحيح.
ولي عودة إلى هذا التنبيه في موضع آخر إن شاء الله تعالى.
(89)
خطأ بعض المتأخرين والمعاصرين في حمل معاني اصطلاحات المتقدمين على معاني اصطلاحات المتأخرين مع ما بينهما من المخالفة
ليس من الصحيح أن نحاكم صنيع القدماء واصطلاحاتهم إلى حدود وتعريفات المتأخرين، إذا خالفت هذه تلك؛ ثم نقول: إن المتقدم تجوز أو لم يراعِ الاصطلاح، أو نحو ذلك.
كان على المتأخرين فهم اصطلاحات أسلافهم والسير وراءهم فيها، ولكن لم يرتض كثير من المتأخرين ذلك؛ أو لم يوفقوا إليه، فصارت لهم في بعض أبواب هذا الفن اصطلاحات تختلف قليلاً أو كثيراً عن اصطلاحات أهل الاصطلاح، أعني المتقدمين من المحدثين، فالذي ينبغي أن يقال هنا لهذه الطائفة من المتأخرين، إنما هو: (لا نشاححكم أيها المتأخرون فيما اصطلحتم عليه ولكن بينوا اصطلاحكم البيان الكامل الوافي وانسبوه لأنفسكم وحْدَكم، لا للقدماء، ولا لعامة المحدثين، وصرحوا بتلك النسبة ليزول الإيهام بإغفالها، وافهموا مصطلحات القدماء واعلموا ما بينها وبين مصطلحاتكم من فرق وتفاوت، واعتبروه في دراساتكم؛ وبينوا ذلك لطالبيه).
(90)
التحذير من الإسراف في إخراج بعض كلمات الناقد عن معناها المشهور في علم المصطلح
إن النقاد كثيراً ما يقع منهم أن تتعدد مرات حكم الواحد منهم في الراوي الواحد وكثيراً ما يقع – أو يتراءى - بين تلك الأحكام اختلاف ما، فليس من الصواب أن نبالغ في حمل جملة كبيرة من مصطلحاتهم على غير معانيها المشهورة عندهم المقررة بينهم، من أجل أن ننفي الاختلاف بين معاني كلمات ذلك الناقد في عدد يسير من الرواة.
بل لا بد من التثبت والمبالغة في التفتيش والاستقراء، فإن علم أن الاختلاف معنوي حكمنا به ووجهناه التوجيه اللائق بحال ذلك الناقد وحال ذلك الراوي؛ وإن عُلم أنه اختلاف لفظي حملنا معنى إحدى الكلمتين على معنى الكلمة الأخرى، ووجهنا ذلك أيضاً؛ ولكن ليعلم أنه لا يلزم من هذا الحمل هنا المساواة بين تلك اللفظتين عند ذلك الناقد مطلقاً حيث وردتا؛ فهذا اللازم باطل.
فليس اختلاف معنى الاصطلاحات عند الناقد هو السبب الوحيد في ما قد يظهر من اختلاف بين كلماته في راو بعينه؛ ولكن من علم أسباب اختلاف الناقد في الرواة اتسع له ما كان ضيقاً من مجال توجيه ذلك الاختلاف، وبان له ما كان خفياً من حقائقه، ولم يقتصر على ما يفعله كثير من المتأخرين من الاسترواح عند اختلاف كلمات الناقد في الراوي إلى الجمع بينها بحمل بعضها على خلاف معناها المصطلح عليه ويبالغ في ذلك ويكثر منه.
¥