قلت: وأكثر النقاد اختلافاً في أحكامهم على رواة بأعيانهم هم أكثر النقاد اجتهاداً في الرواة وأكثرهم كلاماً فيهم وأكثرهم فيما يوجه إليهم من أسئلة عنهم؛ ومن هذا الصنف ابن معين ثم الدارقطني.
4 - أن يسأل الناقد مرة عن الراوي وحده ثم يسأل عنه في وقت آخر مقروناً بمن هو فوقه أو دونه في القوة، قال ابن حجر في (بذل الماعون في فضل الطاعون) وهو يذكر حال بعض الرواة - كما في (الرفع والتكميل) (ص172) -:
«وقد وثقه يحيى بن معين والنسائي ومحمد بن سعد والدارقطني ونقل ابن الجوزي عن ابن معين أنه ضعفه فإن ثبت ذلك فقد يكون سئل عنه وعمن فوقه فضعفه بالنسبة إليه، وهذه قاعدة جليلة فيمن اختلف النقل عن ابن معين فيه؛ نبه عليه أبو الوليد الباجي في كتابه (رجال البخاري).
وانظر التنكيل (ص260 - 262) ولسان الميزان (1/ 28) وفتح المغيث (1/ 374 - 375) وتراجم عبد ربه بن نافع وعبد الرحمن بن سليمان وعبد الرحمن بن عبد الله بن حنظلة وموسى بن عقبة في الفصل التاسع من (مقدمة فتح الباري).
5 - أن يكون أحد قولي الناقد في ذلك الراوي صادراً على غير سبيل الحكم، قال الشيخ المعلمي في (التنكيل) (ص241):
«وقد يتسمح العالم فيما يحكيه على غير جهة الحكم فيستند إلى ما لو أراد الحكم لم يستند إليه كحكاية منقطعة وخبرِ من لا يعدّ خبره حجة وقرينةٍ لا تكفي لبناء الحكم ونحو ذلك----».
6 - أن يكون أحد حكمي الناقد غير متأثر بغير حال الراوي في الرواية ويكون الحكم الآخر متأثراً بحال السائل أو المجلس أو غير ذلك؛ مثل أن يكون السائل مشدداً في سؤاله فيظهر أثر ذلك على جواب من سأله، أخرج الترمذي كما في (شرح علله) لابن رجب (1/ 395 - 396) عن علي ابن المديني قال: «سألت يحيى بن سعيد عن محمد بن عمرو بن علقمة؟ فقال: تريد العفو أو تشدد؟ فقلت: لا، بل أشدد، فقال: ليس هو ممن تريد، كان يقول: أشياخنا أبو سلمة ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب».
وقال الخطيب في الكفاية (ص109): «ومذاهب النقاد للرجال غامضة دقيقة وربما سمع بعضهم في الراوي أدنى مغمز فتوقف عن الاحتجاج بخبره وان لم يكن الذي سمعه موجباً لرد الحديث ولا مسقطاً للعدالة ويرى السامع أن ما فعله هو الأولى رجاء إن كان الراوي حياً أن يحمله ذلك على التحفظ وضبط نفسه عن الغميزة، وإن كان ميتاً أن ينزله من نقل عنه منزلته فلا يُلحقه بطبقة السالمين من ذلك المغمز؛ ومنهم من يرى أن من الاحتياط للدين إشاعة ما سمع من الأمر المكروه الذي لا يوجب إسقاط العدالة بانفراده حتى ينظر هل له من أخوات ونظائر فإن أحوال الناس وطبائعهم جارية على إظهار الجميل وإخفاء ما خالفه فإذا ظهر أمر يُكره مخالف للجميل لم يؤمن أن يكون وراءه شبه له؛ ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الحديث الذي قدمناه في أول باب العدالة: من أظهر لنا خيراً أمناه وقربناه وليس إلينا من سريرته شيء ومن أظهر لنا سوءاً لم نأمنه ولم نصدقه وإن قال: إن سريرتي حسنة». انتهى كلام الخطيب؛ ولقد سبقه إلى قوله (فإذا ظهر أمر يُكره مخالف للجميل---) عروةُ بن الزبير رحمه الله تعالى؛ فقد روى عنه أبو نعيم في (حلية الأولياء) (2/ 177) أنه قال: (إذا رأيت الرجل يعمل الحسنة فاعلم أن لها عنده أخوات؛ فإذا رأيته يعمل السيئة فاعلم أن لها عنده أخوات؛ فإن الحسنة تدل على أخواتها؛ وإن السيئة تدل على أخواتها).
وفي رواية أخرى عنه: (إذا رأيتم خلة شر رائعة من رجُل فاحذروه وإن كان عند الناس رجل صدق فإن لها عنده أخوات؛ وإذا رأيتم خلة خير رائعة من رجل فلا تقطعوا عنه إياسكم وإن كان عند الناس رجل سوء فإن لها عنده أخوات).
وقال الباجي في (التعديل والتجريح) (1/ 283 - 288): «اعلم انه قد يقول المعدل: (فلان ثقة) ولا يريد به انه ممن يحتج بحديثه، ويقول: (فلان لا بأس به) ويريد أنه يحتج بحديثه؛ وانما ذلك على حسب ما هو [أي الناقد] فيه، ووجه السؤال له؛ فقد يسأل عن الرجل الفاضل في دينه المتوسط في حديثه فيقرن بالضعفاء فيقال: ما تقول في فلان وفلان؟ فيقول: فلان ثقة، يريد انه ليس من نمط من قرن به، وانه ثقة بالاضافة إلى غيره، وقد يسأل عنه على غير هذا الوجه فيقول: لا بأس به، فإذا قيل: أهو ثقة؟ قال: الثقة غير هذا».
ثم أطال الباجي في التمثيل لتلك المعاني والاستدلال لها إلى أن قال:
¥