ومما أغرب به أبو عبد الله الحاكم على سائر النقاد وسذ به عنهم دعواه أن مالكاً ممن يجيز الرواية عن الضعفاء، واستدل على ذلك بروايته عن عبد الكريم البصري، جاء ذلك في بحث لابن رجب في (شرح العلل) (ج1ص382).
4 - كان شديداً على أهل العراق:
مما يناسب أن يذكر في هذا المقام قلة شيوخ مالك من العراقيين؛ فكما كان رحمه الله متثبتاً في انتقاء الشيوخ والمرويات عامة، كان شديداً – في الجملة - على العراقيين ومروياتهم خاصة، بل كان متردداً في قبول رواياتهم أو معرضاً عنها؛ ولذلك قل شيوخ مالك من العراقيين،
قال الذهبي في (سير أعلام النبلاء) (8/ 114): "وقال منصور بن سلمه الخزاعي: كنت عند مالك، فقال له رجل: يا أبا عبد الله أقمت على بابك سبعين يوماً حتى كتبت ستين حديثاً! فقال: ستون حديثاً! وجعل يستكثرها؛ فقال الرجل: ربما كتبنا بالكوفة، أو بالعراق، في المجلس الواحد ستين حديثاً؛ فقال: وكيف بالعراق؟ دار الضرب، يضرب بالليل وينفق بالنهار".
وقال الذهبي في (السير) (8/ 68 - 69): «أبو يوسف أحمد بن محمد الصيدلاني (1) سمعت محمد بن الحسن الشيباني يقول: كنت عند مالك فنظر إلى أصحابه فقال: انظروا أهل المشرق فأنزلوهم بمنزلة أهل الكتاب إذا حدثوكم؛ فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم؛ ثم التفت فرآني فكأنه استحيى فقال: يا أبا عبد الله أكره أن تكون غيبة، هكذا أدركت أصحابنا يقولون.
قلت [أي الذهبي]: هذا القول من الإمام قاله لأنه لم يكن له اعتناء بأحوال بعض القوم ولا خبر تراجمهم؛ وهذا هو الورع؛ ألا تراه لما خبر حال أيوب السختياني العراقي كيف احتج به؛ وكذلك حُميد الطويل وغير واحد ممن روى عنهم؛ وأهل العراق كغيرهم فيهم الثقة الحجة والصدوق والفقيه والمقرئ والعابد، وفيهم الضعيف والمتروك والمتهم؛ وفي الصحيحين شيء كثير جداً من رواية العراقيين رحمهم الله، وفيهم من التابعين كمثل علقمة ومسروق وعبيدة والحسن وابن سيرين والشعبي وإبراهيم ثم الحكم وقتادة ومنصور وأبي إسحاق وابن عون ثم مسعر وشعبة وسفيان والحمادين وخلائق أضعافهم رحم الله الجميع، وهذه الحكاية رواها الحاكم عن النجاد عن هلال بن العلاء عن الصيدلاني». انتهى كلام الذهبي.
وما قلته في أول هذه الفائدة من صفة موقف أهل مالك من العراقيين قد اشتهر معناه عنه؛ وليس مستندي فيه هذه الحكاية وحدها؛ فلا يوهن ذلك عدمُ صحة هذه الحكاية على فرض أنها لا تصح، ومع ذلك يظهر أنها صحيحة عند الذهبي فإنه جزم بنسبتها إلى مالك وشَرَحها والشرح عند المحققين فرع الثبوت (2).
ولم ينفرد مالك بهذا الرأي في العراقيين بل قد سبقه إليه بعض شيوخه كالزهري وتبعه عليه بعض تلامذته كالشافعي؛ قال السيوطي في (التدريب) (1/ 85): (وكان جماعة لا يقدمون على حديث الحجاز شيئاً حتى قال مالك: إذا خرج الحديث عن الحجاز انقطع نخاعه؛ وقال الشافعي: إذا لم يوجد للحديث من الحجاز أصل ذهب نخاعه، حكاه الأنصاري في كتاب "ذم الكلام".
وعنه أيضاً: كل حديث جاء من العراق وليس له أصل في الحجاز فلا تقبله وإن كان صحيحاً؛ ما أريد إلا نصيحتك.
وقال مسعر: قلت لحبيب بن أبي ثابت: أيما أعلم بالسنة أهل الحجاز أم أهل العراق؟ فقال: بل أهل الحجاز.
وقال الزهري: إذا سمعت بالحديث العراقي فأورد به ثم أورد به.
وقال طاوس: إذا حدثك العراقي مئة حديث فاطرح تسعة وتسعين.
وقال هشام بن عروة: إذا حدثك العراقي بألف حديث فألق تسعمئة وتسعين؛ وكن من الباقي في شك.
وقال الزهري: إن في حديث أهل الكوفة دغلاً كثيراً.
وقال ابن المبارك: حديث أهل المدينة أصح وإسنادهم أقرب.
وقال الخطيب: أصح طرق السنن ما يرويه أهل الحرمين مكة والمدينة فإن التدليس عنهم قليل، والكذب ووضع الحديث عندهم عزيز؛ ولأهل اليمن روايات جيدة وطرق صحيحة إلا أنها قليلة ومرجعها إلى أهل الحجاز أيضاً؛ ولأهل البصرة من السنن الثابتة بالأسانيد الواضحة ما ليس لغيرهم مع إكثارهم، والكوفيون مثلهم في الكثرة غير أن رواياتهم كثيرة الدغل قليلة السلامة من العلل؛ وحديث الشاميين أكثره مراسيل ومقاطيع، وما اتصل منه مما أسنده الثقات فإنه صالح، والغالب عليه ما يتعلق بالمواعظ.
وقال ابن تيمية: اتفق أهل العلم بالحديث على أن أصح الأحاديث ما رواه أهل المدينة ثم أهل البصرة ثم أهل الشام). انتهى كلام السيوطي.
¥