قلت: وهذا تعليل غير قادح، فإن شعبة كان لا يروي عن أحد من المدلسين إلا ما يتحقق انه سمعه من شيخه)؛ وذكر نحو هذا في بضعة مواضع من (الفتح).
&&&&&
(8)
محاولته منع الضعفاء من الرواة من التحديث
لم يكن شعبة رحمه الله ليقنع بالنقد النظري للرواة وأحاديثهم، وحده، ولا بالاقتصار على الرواية عن الثقات عنده، [أو بالاقتصار على رواية ما صح عنده من أحاديث الثقات ومن قاربهم]، وحده، ولا بمجموع هذين الأمرين وحدهما؛ بل كان ناقداً يباشر النقد عملياً، كان يجيءُ إلى الرجلِ الذي لا يصلح للتحديث، فيمنعه، ويقول له: لا تحدّث وإلا استعديتُ عليك السلطانَ.
قال ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) (1/ 127): (حدثني أبي نا حرملة بن يحيى قال سمعت الشافعي يقول: لولا شعبة ما عرف الحديث بالعراق كان يجئ إلى الرجل [قال الذهبي في "السير" موضحاً المراد: (يعني الذي ليس أهلاً للحديث)] فيقول: لا تحدث، وإلا استعديت عليك السلطان).
قلت: كان السلطان فيه بقية من خير؛ ولو تم هذا الأمر لشعبة ومُنع أكثر الضعفاء عن التحديث لحصل خير كثير وقطع شر مستطير.
&&&&
(9)
تجرده للحق وعدم محاباته لأحد
مما عرف به الإمام شعبة رحمه الله تجرده للحق وقوته في هذا الشأن وعدم محاباته فيه أحداً من الناس كائناً من يكون، قال الآجري في (سؤالات أبي داود) (487):
(وسمعت أبا داود يقول: قال شعبة: لو حابيت أحداً حابيت هشاماً بن حسان، وكان قريبَه)؛ وانظر ترجمة هشام في الميزان.
وقال ابن حبان في (المجروحين) (1/ 96): (أخبرنا الحسن بن سفيان قال سمعت معاذ بن شعبة يقول قال أبو داود: جاء عباد بن صهيب إلى شعبة فقال: إن لي إليك حاجة، فقال: ما هي؟ قال: تكف عن أبان بن أبي عياش، فقال: أنظرني ثلاثة أيام، ثم جاء بعد الثالث فقال: نظرت فيما قلتَ فرأيت أنه لا يحل السكوت عنه.
سمعت محمد بن عبد الرحمن يقول سمعت الحسين بن الفرج يقول عن سليمان بن حرب عن حماد بن زيد قال: جاءني أبان بن أبي عياش، فقال: أحب أن تكلم شعبة أن يكف عني قال: فكلمته فكف عنه أياماً، فأتاني في بعض الليل فقال: إنك سألتني أن أكف عن أبان، وإنه لا يحل الكف عنه، فإنه يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم----).
&&&&&
(10)
مناقشة اشتهاره بالتشدد
لقد اشتهر شعبة بتشدده في النقد، ولا سيما عند المتأخرين: روى أبو زرعة في (الضعفاء) (ص618) عن ابن المبارك قال: (ما رأيت رجلاً أطعن في الرجال من شعبة).
وكان شعبة قد ترك جملة من الرواة في عصره فلم يرو عنهم شيئاً لأمور قد يكونون معذورين فيها عند غيره من النقاد، قال المعلمي: (وكانوا كثيراً ما يبالغون في الاحتياط، حتى قيل لشعبة: لم تركتَ حديث فلان؟ قال: رأيته يركض على برذون؛ وقال جرير: رأيت سماك بن حرب يبول قائماً، فلم أكتب عنه؛ وقيل للحكم بن عتيبة: لِم لم تروِ عن زاذان؟ قال: كان كثير الكلام).
ونقل الذهبي في (السير) عن ورقاء قال: (قلت لشعبة: لمَ تركت حديث ابي الزبير؟ قال: رأيته يزن، فاسترجح في الميزان، فتركته).
وروى الخطيب في (الجامع) (2/ 295) عن أبي العباس المبرد قال: أخبرنا يزيد بن محمد بن المهلب المهلبي قال: حدثني الأصمعي قال: سمعت شعبة يقول: (ما أعلم أحداً فتش الحديث كتفتيشي؛ وقفت على أن ثلاثة أرباعه كذب).
قال أبو العباس: فحدثت به إسماعيل بن إسحاق القاضي فقال: لا ينبغي أن يكون في الحلال والحرام، فقلت: أجل، لأن الله تعالى يقول: (وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه) [سورة فصلت – الآية 42]. انتهى.
قلت: هذه الحكاية قد توهم أن شعبة كان غاية في الشدة في نقد الرواة وأحاديثهم، ولكني لا أرى فيها دلالة على تشدد كثير أو قليل، بل معناها التمكن التام من نقد الأحاديث واستقصاء الروايات والمعرفة الدقيقة بها وكثرةُ ما كان شائعاً في ذلك الزمن من الطرق والأسانيد التالفة الساقطة؛ وانظر (تهذيب الكمال) (26/ 407).
وقال ابن الصلاح في (المقدمة) (ص39 - 40): (حكى أبو عبد الله الحافظ أنه سمع محمد بن سعد الباوردي بمصر يقول: كان من مذهب أبي عبد الرحمن النسائي أن يخرج عن كل من لم يجمع على تركه----).
¥