تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

فهذا هو المراد بالتساهل في عباراتهم؛ غير أن بعض من جاء بعدهم فَهم منها التساهل فيما يَرِد في فضيلة لأمر خاص قد ثبت شرعه في الجملة كقيام ليلة معينة، فإنها داخلة في جملة ما ثبت من شرع قيام الليل؛ فبني على هذا جواز أو استحباب العمل بالضعيف، وقد بين الشاطبي في الاعتصام خطأ هذا الفهم؛ ولي في ذلك رسالة لا تزال مسودة؛ على أن جماعة من المحدثين جاوزوا في مجاميعهم ذاك الحد، فأثبتوا فيها كل حديث سمعوه ولم يتبين لهم عند كتابته أنه باطل؛ وأفرط آخرون فجمعوا كل ما سمعوا معتذرين بأنهم لم يلتزموا إلا أن يكتبوا ما سمعوه ويكتبوا سنده، وعلى الناس أن لا يثقوا بشيء من ذلك حتى يعرضوه على أهل المعرفة بالحديث ورجاله.

ثم جاء المتأخرون فزادوا الطين بلة بحذف الأسانيد.

والخلاص من هذا أسهل [كذا، ولعلها سهل] وهو: أن تبين للناس الحقيقة، ويرجع إلى أهل العلم والتقوى والمعرفة؛ لكن المصيبة حق المصيبة إعراض الناس عن هذا العلم العظيم، ولم يبق إلا أفراد يُلمون بشيء من ظواهره؛ ومع ذلك فالناس لا يرجعون إليهم؛ بل في الناس من يمقتهم ويبغضهم ويعاديهم ويتفنن في سبهم عند كل مناسبة ويدعي لنفسه ما يدعي، ولا ميزان عنده إلا هواه لا غير، وما يخالف هواه لا يبالي به ولو كان في الصحيحين عن جماعة من الصحابة، ويحتج بما يحلو له من الروايات في أي كتاب وجد، وفيما يحتج به الواهي والساقط والموضوع، كما ترى التنبيه عليه في مواضع من كتابي هذا؛ والله المستعان).

12 - التساهل عند المتأخرين أكثر منه عند المتقدمين، في الجملة، قال الذهبي في (الموقظة) (ص78 - 79): (وقد اشتهر عند طوائف من المتأخرين إطلاق اسم الثقة على من لم يجرح مع ارتفاع الجهالة عنه، وهذا يسمى مستوراً ويسمى محله الصدق ويقال فيه: شيخ---).

وقال الذهبي في (السير) و (التذكرة) في ترجمة الحافظ أبي عبد الله ابن منده:

(قال أبو عبد الله ابن أبي ذهل سمعت أبا عبد الله ابن منده يقول: لا يخرج الصحيح إلا من ينزل في الإسناد أو يكذب)؛ قال الذهبي: (يعني أن المشايخ المتأخرين لا يبلغون في الإتقان رتبة الصحة، فيقع في الكذب الحافظ إن خرج عنهم وسماه صحيحاً، أو يروي الحديث بنزول درجة ودرجتين). انتهى، بلفظ (السير).

وقال السخاوي في (الإعلان بالتوبيخ) (ص353) بعد أن ذكر كثيراً من النقاد من عصر الصحابة إلى عصره: (والأقدمون أقرب إلى الاستقامة وأبعد عن الملامة ممن تأخر وما خفي أكثر).

قد يقال: هذا تساهل الرواة، وأصل الكلام على تساهل النقاد، فما دخل هذا الكلام؟ والجواب: أن هذا التساهل من الرواة يؤخذ منه أنه قد وقع تساهل من النقاد في توثيق من وثقوه منهم، ولا بد.

وقال المعلمي في (الأنوار الكاشفة) (ص29): (---أقول: ذكر شارح الشفاء أن البزار أخرجه بسند حسن، وتحسين المتأخرين فيه نظر).

وقال ابن حجر في (مقدمة الفتح) (ص621): (كان المتقدمون يتحرزون عن الشيء اليسير من التساهل---).

أقول: وكذلك كان ينبغي أن يفعل الذين جاءوا من بعدهم، وما كان عليه السلف هو الاعتدال حقاً وإن أسماه بعض المتأخرين تشدداً، فإنما هو تشدد بالنسبة للمتأخرين وما هم عليه من تساهل؛ ولكن المتأخرين لم يسلكوا مسلك المتقدمين من الاعتدال في باب رواية الأحاديث ونقدها، لأنهم كثرت عليهم المرويات وطالت عليهم الأسانيد وتشعبت عليهم الطرق وازدحمت عليهم الكتب وتنوعت عليهم العلوم وزادت المشاغل وضعفت الهمم وانتشر الرأي وكثر التهاون، ودخل في صناعة الحديث من ليس من أهلها وتكلم على الأحاديث من كان عليه أن يسكت، واشتهر بين الناس كثير من الأحاديث الواهية والساقطة وتعصبوا لها ودافعوا عنها وجاراهم بعض الفقهاء وغيرهم فحصل التساهل ووقع ضرره ونشأ عنه جهل وبدع وضلالات والله المستعان.

13 - إن قيل: كيف حصل التساهل؟ ولمَ تساهل أكثر الأئمة في رواية الأحاديث الضعيفة، كالإمام أحمد والبخاري خارج الصحيح وغيرهما؟

فالجواب أن علماء السلف من الصحابة والتابعين، لم يكونوا يرتضون – في الجملة – أن يحدثوا بأي حديث يرونه لا يصح، لأنهم يرون ذلك خيانة للأمانة وغشاً للأمة، ثم استمر على هذه الطريقة طائفة من علماء الحديث، ولكن لما اتسعت مدرسة الإسناد وتباعدت أطرافها وصار من غاياتها حفظ المروي في الجملة تخفف بعض الأئمة من بعض تلك الشروط القديمة، فمنهم من اكتفى بأن لا يروي إلا عن ثقة عنده، ومنهم من جمع مسنداً كالإمام أحمد فاكتفى بأن لا يدخل فيه حديثاً مكذوباً وهو يعلم أنه مكذوب، واشترط في شيوخه الذين يروي عنهم أحاديث ذلك المسند القوة في الجملة.

والذي سوغ هذا القدر من التساهل، هو اشتهار انقسام الأحاديث إلى ثابتة وغير ثابتة، واشتهار أن الحديث لا يصح اعتماده إلا بعد أن يثبت إسناده؛ ومن أسند لك فقد أحالك.

وهكذا توسط عدد من الأئمة، فلم يرووا للمتروكين عندهم، ونحوهم، ولم يرووا الأحاديث التي ثبت عندهم بطلانها، ورووا ما يصح وما يحتمل أن يصح، أو ما قد يصلح للاستشهاد به، كما بينه العلامة المعلمي، في كلامه السابق، رحمه الله.

"

يتبع، إن شاء الله تعالى-----

"

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير