ـ[محمد خلف سلامة]ــــــــ[06 - 02 - 06, 06:07 م]ـ
"
14 - من النقاد من يتساهل في أمر ويشدد في غيره، مثل أن يتساهل في روايات المدلسين ويتشدد في روايات أهل البدع؛ فلتساهله وتشدده ضوابط في الجملة، ومنهم من يتساهل في راو ويتشدد في غيره، من غير أن يسهل عليك الوقوف على ضابط لتساهله أو تشدده؛ فليس معنى وصف الراوي بالتساهل أنه لا يوجد عنده تشدد ما، وليس معنى وصفه بالاعتدال انتفاء وقوع التشدد والتساهل منه انتفاء تاماً.
فلعله ما من ناقد إلا ووقع منه تساهل وتشدد واعتدال؛ ولا شك أن الاعتدال لا بد أن يكون هو الغالب على حال الناقد ليكون معتمداً في الجملة، سواء كان معدوداً من المعتدلين أو المتساهلين أو المتشددين؛ وأما من غلبت مواطن تساهله على مواطن اعتداله، فليس يصح أن يعتمد، إلا إذا علمت مظان تساهله من مظان اعتداله، فإنه يكون معتمداً في مظان اعتداله دون مظان تساهله.
ومثل ذلك يقال في التشدد.
15 - من النقاد من يتساهل في طبقة دون غيرها؛ فمنهم من يتساهل في المتقدمين كالتابعين وأتباعهم؛ وهذا كثير، وله سببه؛ فالكذب في التابعين قليل، والتثبت غالب والتقوى متوافرة، في الجملة، والروايات قليلة وملكة الحفظ غالبة على الناس، وشهوة التحديث ضعيفة.
هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن الكلام في الرواة تجريحاً وتعديلاً قليل جداً، فرأى بعض النقاد أنه مضطر في نقدهم إلى الاعتماد على معاني متون أحاديثهم، وكونهم مستورين، ولم يطعن فيهم أو في رواياتهم أحد من المتقدمين.
وكذلك قد يتشدد الناقد ويتساهل في طبقة واحدة أو طائفة واحدة من الرواة، كابن حزم، يتشدد على ضعفاء المدلسين ويتسهل على ثقاتهم.
16 - من مظان التساهل والتشدد كتب الدفاع وكتب الردود، ولذا حصل من التساهل في كتاب الذهبي (من تكلم فيه وهو موثق) وكتاب ابن حجر (القول المسدد في الذب عن المسند) والفصل التاسع من كتابه (هدي الساري) ما لم يحصل من ذلك في غير هذه الكتب من كتبهما.
وكذلك وقع من التشدد والتساهل في كتاب (الجوهر النقي في الرد على البيهقي) لابن التركماني ما لا يخفى.
وحتى الكتب القريبة في موضوعها وطريقتها من كتب المناقب وقع فيها نصيب من إغفال جانب من التجريح والاعتناء بإبراز جوانب الثناء والتوثيق، ومن هذا النوع كتاب (تذكرة الحفاظ) للحافظ الذهبي.
وأما ما حصل من التساهل والتشدد في (تأنيب الخطيب) فأمر فاحش بل هو بوصف التلاعب أولى منه بأن يسمى تساهلاً وتشدداً، كما حقق ذلك مفصلاً العلامة ذهبي العصر - بل بخاريُّه – العلامة الإمام المعلمي اليماني رحمه الله تعالى.
17 - ليس معنى التساهل عند النقاد التهاونَ والتلاعبَ وتغييرَ الحقائق عمداً، وإنما معناه أن يمشي الناقد على قاعدة تثمر أحكاماً فرعية واقعة دون حد الاعتدال.
ولما فهم بعض الباحثين أن المراد بالتساهل هو المعنى الأول المغلوط فيه نفوا وجود التساهل عند أحد من العلماء الثقات، فضلاً عن الأئمة.
ومثل ذلك يقال في التشدد.
18 - تساهل الرواة كان له أثر كبير في تساهل كثير من النقاد، ولذلك كان المتأخرون من النقاد أكثر تساهلاً من المتقدمين منهم، بسبب شدة تساهل المتأخرين في الرواية.
19 - المتأخرون أكثر تساهلاً من المتقدمين؛ وأكثر تساهل وقع عند النقاد، إنما وقع في نقد الأحاديث؛ حكموا على كثير من الموضوعات بأنها ضعيفة أو ضعيفة جداً، وعلى كثير من الشديدة الضعف بمطلق الضعف، ثم حسنوا أو صححوا كثيراً من الأحاديث الضعيفة إما بمجموع الطرق، وإما بعدم الالتفات إلى ما ذكره لها علماء العلل من العلل القادحة الخفية أو التي فيها نوع خفاء.
20 - أول من أعرفه دعا إلى الاعتدال في هذا العصر هو العلامة المعلمي اليماني رحمه الله؛ وهو الذي طرق بل فتح باب اسئناف الاجتهاد في نقد الحديث.
21 - كثير من الدراسات الحديثة اتخذت من كتاب (تقريب التهذيب) ميزاناً تقايس به مقدار بعد الناقد أو قربه من طبقة الاعتدال والتوسط والإنصاف، وهذا الميزان، أعني (تقريب التهذيب) ليس في الحقيقة بميزان اعتدال منضبط، ولا يكاد؛ فلا بد لمعرفة ذلك من استقراء تام وتتبع عام، وتأصيل صحيح متين.
¥