بل صار واضحاً أن رغبة الحميري في إيجاد الجزء، وما يقتضيه ذلك من بذل الجائزة الثمينة، هي التي أوحت للمزوّرين بتزويره، وشجعتهم على إيجاده، بدليل أنهم لم يجدوا من يتحفونه بهذا الجزء المزور إلا هذا الحريص على وجوده، الباذل في سبيله كل غال ونفيس!!
فهما شريكان في الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما هي حال الرائش وكاتب الربا، ولا يزالان على إصرارهما على هذا الكذب، وإلا فيستطيع الحميري أن يتراجع ويعتذر ويسحب الكتاب من الأسواق. ولكن هذا الكذب وقع على قلبه موقع الماء البارد الزلال، بل هو الذي أوجده وأجاز عليه.
هذه هي التهمة يا شيخ أديب، وقد أكَّدتها بكلامك بارك الله فيك].
انتهى كلامه وفقه الله، وهو كلام سديد، وقد تأكد كلامه وتأيد أكثر لما أخرج الحميري إغلاقه!
وبهذا أيضاً يُعلم المدخل الذي نفاه الحميري بقوله: [إن المخطوط جاءنا من بلاد ما وراء النهر فلا مدخل لنا فيه البتة]!
* قال الحميري: [أما عن ما أورده الإمام الذهبي رحمه الله في سيره في ترجمة الشيخ محيي الدين وإيراده مقالة العز بن عبد السلام عن ابن دقيق العيد في تجريح محيي الدين فهو كلام مردود عري عن الصواب، وليس هو التحقيق بل التحقيق ثناء ابن عبد السلام على الشيخ الأكبر كما هي عبارة العقد الثمين، ونفح الطيب، والشذرات عن مقالة الإمام رحمه الله.]
قلت: هنا تجلّد الحميري على الكذب بوقاحة، فلم يكتف بالكذب على العز بن عبد السلام، بل جاء وكذب على التقي الفاسي صاحب العقد الثمين جهاراً نهاراً! وأحال على كتابه بقلّة حياء، مستخفًّا بعقول القراء، وكأن أحداً لن يرجع ليتأكد من مزاعمه.
فروى الفاسي في العقد الثمين (2/ 181 - 182) ما رواه الحافظ ابن سيد الناس عن الحافظ ابن دقيق العيد، عن العز بن عبد السلام قوله في ابن عربي: "شيخ سوء كذاب، يقول بقِدَم العالَم، ولا يحرِّم فرجاً".
وأسند عن ابن سيد الناس به (2/ 182) قول العز: "شيخ سوء مقبوح كذاب". ضمن قصة.
وهذان صحيحان مسلسلان بأئمة حفاظ، ولم ينفرد بهما الذهبي كما هو مبلغ علم الحميري! وقد رواه غير ابن سيد الناس عن ابن دقيق العيد، كأبي بكر بن سالار (مجموع الفتاوى 2/ 244) والتقي السبكي (كما سيأتي قريباً).
ثم قال التقي الفاسي (2/ 182 - 183): "ولا يُعارِض ما صحَّ عن ابن عبد السلام في ذم ابن عربي: ما حكاه عنه الشيخ عبد الله بن أسعد اليافعي في كتابه الإرشاد والتطريز .. "
فذكر حكايته عن العز أنه كان يطعن في ابن عربي ويقول هو زنديق، فقال له بعض أصحابه: أريد أن تريني القطب، أو وليًّا: فأشار إلى ابن عربي .. الخ.
ثم أبطل التقي الفاسي هذه الحكاية في المدح ونقدها من عدة أوجه في ثلاث صفحات! فمما قال (2/ 183): "وإنما لم يكن ما حكاه اليافعي معارِضاً لما سبق من ذم ابن عربي لأن ما حكاه اليافعي بغير إسناد إلى ابن عبد السلام، وحُكم ذلك الاطِّراح، والعمل بما صحَّ من ذمّه، والله أعلم، وأظن ظنًّا قوياً أن هذه الحكاية من انتحال غُلاة الصوفية المعتقدين لابن عربي، فانتشرت حتى نُقلت إلى أهل الخير فتلقوها بسلامة صدر، وكان اليافعي رحمه الله سليم الصدر فيما بلغنا" .. الخ.
ومما قال التقي الفاسي: "وما ذُكر في هذه الحكاية من ثناء ابن عبد السلام على ابن عربي -على تقدير صحته- منسوخٌ بما ذكره ابن دقيق العيد عن ابن السلام في ذمّه لابن عربي".
وحقق التقي الفاسي أن ابن دقيق العيد إنما لقي ابن عبد السلام بعد وفاة ابن عربي، أما حكاية اليافعي -لو صحت! - فهي في حياة ابن عربي بدليل ما فيها من أن العز أراه لمن يسأله عن القطب أو الولي.
الحاصل أن التقي الفاسي صرَّح أكثر من مرة أن تكذيب العز بن عبد السلام وذمّه لابن عربي صحيح، وأن عليه العمل، وأن ما رُوي من مدحه له مطَّرَح مردود، بل يرجّح كونه من وضع وانتحال غلاة الصوفية، وأنه على فرض ثبوته منسوخٌ يقيناً، ويسهب في إبطال المدح في ثلاث صفحات! فهذا هو تحقيقه، وهو فصلٌ في المسألة، ثم يأتي الحميري بعد ذلك كله ويدعي بقلة حياء أن التحقيق عكس ذلك؛ مُحيلاً على نفس الموضع لتأييد تحقيقه؟! أي كذب عمد أبلغ من هذا؟
¥