تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وأما الثالث فدليل أيضا على ما سبق، لأنه إذا لم يصنف السابقون أو أن بعض الأحاديث فاتتهم فإن المتأخر يكون أولى بعدم الوقوف على ذلك الذي لم يدون أو فات.

فإذا روى المتأخر حديثا لا يوجد عند أحد من السابقين لا في تصانيفهم ولا في تصانيف تلاميذهم فمستحيل أن يحصل عليه المتأخر، فعدم وجود هذا الحديث عندهم علة كافية لرد الحديث.

ولا يقال هنا: إن بعض الأئمة قد أحرقوا كتبهم أو أمروا بإحراقها قبل الوفاة، أو إن كتب بعض الأئمة من المسانيد والمصنفات والجوامع قد فقدت، وذلك لأن أحاديثهم نشروها ورواها تلاميذهم ولم تفت أصحابهم من الحفاظ في عصور الرواية، ولو فات شيء منها فمستحيل أن يحصل عليه من جاء بعدهم من المتأخرين.

وقد وجدنا علماءنا يستدلون كثيرا على ضعف الحديث الذي يستشهد به المخالف بعدم إخراجه في الكتب المشهورة، ولم يقولوا بأنه يحتمل أن تكون مروية في المصنفات المفقودة فلا يكفي مجرد الاحتمال، فلا مجال للاحتمال في هذا العلم كما قال الحافظ ابن الحجر (فتح الباري 1/ 45): (الاحتمالات العقلية المجردة لا مدخل لها في هذا الفن).

فمثلا قال شيخ الإسلام -الفتاوى الكبرى4/ 363 - ((والأحاديث الكثيرة المروية في زيارة قبره كلها ضعيفة بل موضوعة لم يرو الأئمة ولا أهل السنن المتبعة كسنن أبي داود والنسائي ونحوهما فيها شيئا))

وقال ابن عبدالهادي في (الصارم المنكي في الرد على السبكي ص113): ((ولم يخرج أرباب الصحيح شيئا من ذلك ولا أرباب السنن المعتمدة كسنن أبي داود والنسائي والترمذي ونحوهم، ولا أهل المسانيد التي من هذا الجنس كمسند أحمد وغيره ولا في موطأ مالك ولا في مسند الشافعي ... فكيف يكون في ذلك أحاديث صحيحة ولم يعرفها أحد من أئمة الدين ولا علماء الحديث؟)) وكرر نفس الحجة في كتابه ص49،ص185

وقال الزيلعي في نصب الراية (1\ 355): ((وكيف تكون صحيحة، وليست مخرجة في شيء من الصحيح ولا المسانيد ولا السنن المشهورة؟))

ب. أما المقدمة الثانية: ففيها نظر أيضا؛ وذلك لأننا لم ندع أننا نعلم ذلك أو أننا قادرون على الحكم بذلك على حديث رواه المتأخر، بل نؤيد فقط قول البيهقي وغيره من العلماء، ولذا فلا مجال لقولك: (ثم هب أننا سلمنا أن جميع الأحاديث دونت في القرن الثالث، فهل كل ما دون وصل إلينا ... )

وغاية ما في الأمر أنه إذا قال البيهقي أو الطبراني أو الدارقطني أو غيرهم هذا حديث غريب فلا نتجاسر على الاعتراض عليهم بما شذ به أحد المصنفين المتأخرين عن عصر الرواية، ونجعله متابعا أو شاهدا.

ثم يا أخي العزيز لماذا لا نتأمل في منهج النقاد في رد الحديث الذي يتفرد به الراوي عن إمام مشهور له تلاميذ ونجعل الرواية المتأخرة بمنزلة الراوي المتفرد عنه، كما قال الإمام مسلم في مقدمة صحيحة: (فأما من تراه يعمد لمثل الزهري في جلالته وكثرة أصحابه الحفاظ المتقنين لحديثه وحديث غيره، أو لمثل هشام بن عروة، وحديثهما عند أهل العلم مبسوط مشترك؛ قد نقل أصحابهما عنهما حديثهما على الاتفاق منهم في أكثره، فيروي عنهما أو عن أحدهما العدد من الحديث مما لا يعرفه أحد من أصحابهما وليس ممن قد شاركهم في الصحيح مما عندهم فغير جائز قبول حديث هذا الضرب من الناس والله أعلم)

وعلى كل فما بنيت عليه اعتراضك غير سليم – في نظري – ويبقى كلام البيهقي وغيره من الأئمة سليما وقويا.هذا وقد قُلْتَ: (كلام البيهقي حق لا مرية فيه).

وأختم بقول آخر للبيهقي في (مناقب الشافعي (2/ 321): ((والذي ينبغي ذكره ههنا: أن الحديث في الابتداء كانوا يأخذونه من لفظ المحدِّث حفظاً، ثم كتبه بعضهم احتياطاً، ثم قام بجمعه، ومعرفةِ رواته، والتمييز بين صحيحه وسقيمه جماعةٌ لم يَخْفَ عليهم إتقانُ المتقنين من رواته ولا خطأَ من أخطأ منهم في روايته، حتى لو زِيْدَ في حديثٍ حرفٌ، أو نُقِصَ منه شيءٌ، أو غُيِّرَ منه لفظٌ يُغَيِّرُ المعنى وقفوا عليه، وتَبَيَّنُوهُ، ودوّنوه في تواريخهم، حتى ترك أوائلُ هذه الأمةِ أوَاخرَها - بحمد الله - على الواضحة. فمن سلك في كل نوع من أنواع العلوم سبيلَهم، واقتدى بهم صار على بيّنةٍ من دينه))

وأرجو أن يتسع صدرك لهذه المداخلة كما اتسع صدري لمداخلتك.

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير