ويكثر نقل مثل هذا عن السلف الصالح ومن بعدهم من العلماء والأولياء نفع الله بهم, ولكن يبقى هنا النظر في شرط العمل على مقتضى هذه الأمور ,وذلك أن هذه الأمور لا يصح أن تراعى وتعتبر إلا بشرط أن لا تخرم حكما شرعيا ولا قاعدة دينية () فإن ما يخرم قاعدة شرعية أو حكما شرعيا ليس بحق في نفسه بل هو إما خيال أو وهم وإما من إلقاء الشيطان وقد يخالطه ما هو حق وقد لا يخالطه وجميع ذلك لا يصح اعتباره من جهة معارضته لما هو ثابت مشروع وذلك أن التشريع الذي أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم عام لا خاص كما تقدم في المسألة قبل هذا وأصله لا ينخرم ولا ينكسر له اطراد ولا يحاشى من الدخول تحت حكمه مكلف وإذا كان كذلك فكل ما جاء من هذا القبيل الذي نحن بصدده مضادا لما تمهد في الشريعة فهو فاسد باطل).
قاله الإمام أبو إسحاق الشاطبي في الموافقات (2/ 200 إلى 203)
الدليل الأول
رؤيا المؤمن وحي
قلت: قال ابن عباس: (الرؤيا الحسنة بشرى من الله)
الدليل الأول
ذكر الأزرق قوله تعالى: (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب, أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء, إنه علي حكيم) وقال: (وحيا) أي مناما عند كثير من أهل التفسير , فالرؤيا من طرق تكليم الحق تعالى لعباده.
قلت: ذكر الأزرق كلاما ونقلا عن ابن تيمية وابن القيم في أن الله يوحي لغير الأنبياء بطريقة مجملة لا تسمن ولا تغني من جوع, ولذلك رأيت أن أفرد الرد على ما أورده هناك في رسالة مستقلة حرصا على الموضوعية في الرد. سميتها: (إتحاف السادة النبلاء بحقيقة الوحي لغير الأنبياء).وسأخرجها قريبا عن شاء الله.
الدليل الثاني
قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة)
وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الرسالة والنبوة قد انقطعت, فلا رسول بعدي ولا نبي. قال: فشق ذلك على الناس, فقال: لكن المبشرات, قالوا: وما المبشرات؟ قال: رؤيا المسلم, وهي جزء من أجزاء النبوة. قال في الهامش: رواه الترمذي وصححه.
قال: فقد أثبتت هذه الأحاديث أن الرؤيا الصالحة جزء من النبوة, أي طريق من طرق الوحي للأنبياء , شاركهم فيه المؤمنون, فتأكد عموم الآية.
قلت: كلام ابن الأزرق هزيل المبنى, فليس للوحي الخاص بالأنبياء وجود بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم , لأنه لازم للنبوة طردا وعكسا, إيجابا وسلبا. فنفي النبوة يستلزم نفي الوحي, ونفيه يستلزم نفي النبوة. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الرسالة والنبوة قد انقطعت) , فدل ذلك أن الوحي انقطع. وبهذا تعلم خطأ قول ابن الأزرق: (شاركهم فيه المؤمنون) , لأنه لو أثبت الوحي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم للزمه أن يثبت نبوة بعده, وهذا مردود شرعا. فبقي أن رؤيا المؤمن ليست من ذاك الوحي, إنما هي مبشرات كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. فالحديث يدل على أن الرؤيا بالنسبة للأنبياء أخص من الوحي, فالوحي أنواع, الرؤيا نوع وتكليم الملك نوع وكلام الله نوع. وإثبات الأخص بالنسبة لهم يستلزم إثبات الأعم. بخلاف غيرهم, فالرؤيا بالنسبة لهم أعم من الوحي, فالرؤيا تنقسم إلى نوعين, رؤيا وحي وهي رؤيا الأنبياء, ورؤيا غيرهم وهي الرؤى المبشرات, وإثبات الأعم لا يستلزم إثبات الأخص.
وقد يقول قائل: إذا كانت الرؤيا جزءا من الوحي, فهي أيضا وحي. والجواب أن هذا صحيح بالنسبة للأنبياء لما سبق ذكره, أما بالنسبة لغيرهم فلا. فإنك لو قلت في من هو دون النبي صلى الله عليه وسلم: الرؤيا وحي, والوحي نبوة, لكانت النتيجة: (الرؤيا نبوة) , وهذا خطأ. وستقول: هذا صحيح بالنسبة للنبي. وهذا هو المقصود. لأن رؤيا الأنبياء حق. ورد الحافظ هذا بطريقة أخرى فقال في الفتح (12/ 375/دار المعرفة): (ظاهر الاستثناء أن (الرؤيا نبوة) وليس كذلك لما تقدم أن المراد تشبيه أمر الرؤيا بالنبوة أو لأن جزء الشيء لا يستلزم ثبوت وصفه له, كمن قال أشهد أن لا إله إلا الله رافعا صوته لا يسمى مؤذنا ولا يقال أنه أذن وإن كانت جزءا من الأذان وكذا لو قرأ شيئا من القرآن وهو قائم لا يسمى مصليا وإن كانت القراءة جزءا من الصلاة)
هذا في الوحي الخاص بالأنبياء, أما الوحي الأعم والذي تحته وحي الإلهام وغيره فلا محل له من الكلام هنا. ولا ينبغي ذلك.
¥