وهناك دليل ثان وهو ما رواه الترمذي في سننه بعد ذكره لحديث قراءة السجدة وتبارك قبل النوم. فقال زهير بن معاوية لأبي الزبير: سمعت من جابر يذكر هذا الحديث؟ فقال أبو الزبير: إنما أخبرنيه صفوان أو ابن صفوان، وكأن زهيرا أنكر أن يكون هذا الحديث عن أبي الزبير عن جابر.
والدليل الثالث المثبت لتدليس أبي الزبير ما رواه أبو داود الطيالسي حدثنا زهير عن أبي الزبير، قلت له: أحدثك جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي قحافة غيروا وجنبوه السواد؟ قال: لا. وفي المسند بعد ذكر هذا الحديث قال: غيروا هذا الشيب، قال حسن: قال زهير: قلت لأبي الزبير: قال جنبوه السواد؟ قال: لا. ومثله في مسند أبي عوانه المسمى: المستخرج على صحيح مسلم. وهو في مسلم من رواية أبي خيثمة عن أبي الزبير بدون ذكر السواد ثم عن ابن جريج عن أبي الزبير بلفظ: غيروا هذا بشيء واجتنبوا السواد.
وهذا يدل على أنه لم يسمع هذه اللفظة من جابر وإنما هي زيادة من الواسطة بينه وبينه.
الدليل الرابع: أنه يروي عمن لم يلقهم مثل عائشة وعبدالله بن عمرو رضي الله عنهم.
مستند من نفى التدليس عن أبي الزبير:
احتج من نفى التدليس عن أبي الزبير بعدة حجج منها:
1 - أن المتقدمين من أئمة الجرح والتعديل كابن المديني والبخاري وأبو حاتم وأحمد وابن معين ومسلم والعجلي وابن سعد وابن أبي حاتم والدولابي والحاكم وابن حبان وابن عدي كلهم ذكروا أبا الزبير ولم يشيروا إلى اتهامه بالتدليس، مما يدل على عدم شهرته بالتدليس عندهم، وأول من ذكره بالتدليس النسائي كما في نقل العلائي والذهبي وابن حجر فيما تقدم.
2 - من المعروف عن شعبة تشدده في نقد التدليس والمدلسين وعدم الأخذ عنهم، وقد أخذ عن أبي الزبير أربع مئة حديث كما في الميزان، ثم رأى من تصرفات أبي الزبير ما دعاه إلى ترك الرواية عنه، ومع ذلك لم يشر من قريب ولا بعيد إلى أنه مدلس.
3 - قد روى البخاري لأبي الزبير مقرونا في الصحيح ومعلقا مجزوما به، واستشهد به مسلم في صحيحه، كما أن الإمام أحمد استشهد بإسناد فيه أبو الزبير عن جابر، حيث أنه سئل عن البثرة فقال: ليس فسه وضوء ... ثم قال: وابن أبي أوفى تنخع دما وجابر- يرويه أبو الزبير عن جابر. وسنده عند ابن أبي شيبة عن وكيع عن عبدالله بن أبي حبيب بن ثابت عن أبي الزبير عن جابر أنه أدخل اصبعه في أنفه فخرج عليه دم فمسحه بالأرض أو التراب ثم صلى.
4 - نقل الحافظ ابن حجر عن الساجي أنه قال: وبلغني عن يحيى بن معين أنه قال: استحلف ليث أبا الزبير بين الركن والمقام أنك سمعت هذه الأحاديث من جابر؟ فقال: والله إني سمعتها من جابر، يقول ثلاثا. ولكن الساجي لم يدرك ابن معين.
5 - أنه إن ثبت تدليسه، فتدليسه من جنس تدليس السلف الذين لا يدلسون عن الضعفاء. قال ابن القيم: وأبو الزبير وإن كان فيه تدليس فليس معروفا بالتدليس عن المتهمين والضعفاء، بل تدليسه من جنس تدليس السلف، لم يكونوا يدلسون عن متهم ولا مجروح، وإنما كثر هذا النوع من التدليس في المتأخرين.
الترجيح في ثبوت التدليس عند أبي الزبير:
الذي يترجح مما سبق ثبوت التدليس عند أبي الزبير، وأما أدلة النافين لتدليس أبي الزبير فيمكن أن يجاب عنها بالتالي:
الجواب عن الدليل الأول والثاني أن من علم حجة على من لم يعلم، وعدم العلم بالشيء ليس دليلا على العلم بعدمه.
وأما استشهاد مسلم بروايته وكذا أحمد وتعليق البخاري لحديث في سنده أبو الزبير عن جابر، فيقال لعلهم اطلعوا على التصريح بالتحديث في طرق أخرى.
وما نقله ابن حجر عن الساجي فإنه بلاغ وليس بالمتصل.
وأما النقل عن ابن القيم فقد نقل في موضع آخر عن ابن القطان أن أبا الزبير مدلس وغلَّط أبا الزبير في روايته عن عائشة وابن عباس.
منزلة صحيح مسلم عند العلماء
مدح صحيح مسلم وصحة أحاديثه:
أكثر العلماء المدح والثناء على صحيح مسلم وحكموا بصحة أحاديثه، فنذكر طرفا من ذلك بشكل مختصر يدل على المقصود.
1. قال الإمام مسلم رحمه الله عن أحاديث صحيحه: ليس كل حديث صحيح أودعته هذا الكتاب وإنما أخرجت ما أجمعوا عليه.
2. وقال مسلم أيضا: عرضت كتابي هذا على أبي زرعة الرازي فكل ما أشار أن له علة تركته، وكل ما قال أنه صحيح وليس له علة خرجته.
¥