تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

.. وقال الحافظ ابن حجر: " وبهذا التقرير يتبين عظم موقع كلام الأئمة المتقدمين،وشدة فحصهم،وقوة بحثهم، وصحة نظرهم، وتقدمهم بما يوجب المصير إلى تقليدهم في ذلك،والتسليم لهم فيه، وكل من حكم بصحة الحديث مع ذلك إنما مشى فيه على ظاهر الإسناد، كالترمذي، وكأبي حاتم ابن حبان؛ فإنه أخرجه في صحيحه،وهو معروف بالتساهل في باب النقد، ولا سيما كون الحديث المذكور في فضائل الأعمال (5)

... وقال السخاوي: " ولذا كان الحكم من المتأخرين عسراً جداً، وللنظر في مجال، بخلاف الأئمة المتقدمين الذين منحهم الله التبحر في علم الحديث والتوسع في حفظه كشعبة والقطان وابن مهدي ونحوهم وأصحابهم مثل أحمد وابن المديني وابن معين وابن راهويه وطائفة، ثم أصحابهم مثل البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي، وهكذا إلى زمن الدارقطني والبيهقي ولم يجئ بعدهم مساوٍ لهم ولا مقارب أفاده العلائي،وقال: فمتى وجدنا في كلام أحد المتقدمين الحكم به كان معتمداً لما أعطاهم الله من الحفظ الغزير وإن اختلف النقل عنهم عدل إلى الترجيح ا هـ (6)

... يعني السخاوي بقوله هذا؛ أن تصحيح الحديث أو تعليله بناء على معرفة ما يحيط به من القرائن يصعب على المتأخرين، بخلاف المتقدمين لتبحرهم في علم الحديث وتوسعهم في حفظه.

... وقال الحافظ العلائي بعد أن سرد آراء الفقهاء وعلماء الأصول حول مسألة زيادة الثقة: " كلام الأئمة المتقدمين في هذا الفن كعبد الرحمن بن مهدي ويحيى بن سعيد القطان وأحمد بن حنبل والبخاري وأمثالهم يقتضي أن لا يحكم في هذا المسألة - يعني زيادة الثقة - بحكم كلي، بل عملهم في ذلك دائر على الترجيح بالنسبة إلى ما يقوي عند أحدهم في حديث حديث " (7).

... وقال الحافظ ابن حجر في المناسبة نفسها: " والمنقول عن أئمة الحديث المتقدمين كعبد الرحمن بن مهدي ويحيى القطان وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين وعلي بن المديني والبخاري وأبي زرعة وأبي حاتم والنسائي والدارقطني وغيرهم اعتبار الترجيح فيما يتعلق بالزيادة وغيرها، ولا يعرف عن أحد منهم قبول الزيادة " (8).

... وهذه النصوص واضحة وجلية في مدى احترام أئمتنا فكرة التفريق بين المتقدمين والمتأخرين في مجال الحديث وعلومه، وشعورهم العميق بالفوارق العلمية الآخذة في تبلورها بينهم بقدر كبير في معالجة مسائل علوم الحديث، تنظيراً وتطبيقاً.

... كما أن هذه النصوص تحمل إشارة واضحة إلى أن كلمة " المتقدمين " يقصدون بها نقاد الحديث، باستثناء المعروفين منهم بالتساهل في التصحيح: كابن خزيمة وابن حبان والحاكم. بينما يعنون بالمتأخرين غير النقاد ممن كان يقبل الأحاديث ويردها بعد الدارقطني، من الفقهاء وعلماء الكلام وغيرهم ممن ينتهج منهجهم، أو يلفق بينه وبين منهج المحدثين النقاد، كما هو جلي من سياق كلام الحافظ العلائي والحافظ ابن حجر، إذ أنَّ تعقيبهما الذي نقلته آنفاً كان بعد سرد آراء علماء الطوائف - وهم الفقهاء،وعلماء الكلام والأصول، وعلماء الحديث - حول مسألة زيادة الثقة،ولذلك ينبغي أن يكون الحد الفاصل بينهم منهجياً أكثر من كونه زمنياً.

... هذا وقد كان استخدام لفظتي " المتقدمين والمتأخرين " مألوفاً في كتب مصطلح الحديث وغيرها، مما يبرهن به على وجود تباين بينهم في إستخدام المصطلحات عموماً، الأمر الذي يفرض على الباحث في علوم الحديث أن يأخذ ذلك بعين الاعتبار عند شرح المصطلحات والنصوص ذات الطابع النقدي، لا سيما في الأنواع التي توسعت مفاهيمها وضوابطها في العصور المتأخرة، كطرق التحمل والأداء،والجرح والتعديل.


(1) الحافظ الذهبي، تذكرة الحفاظ ص: 726 - 826.
(2) المصدر السابق، ص: 849.
(3) ميزان الإعتدال1/ 4.
(4) الموقظة ص: 46 (تحقيق عبد الفتاح أبو غدة، ط: 2، سنة 1412هـ دار البشائر الإسلامية، بيروت)
(5) النكت على كتاب ابن الصلاح 2/ 726 (تحقيق الشيخ ربيع المدخلي، ط: 1، الجامعة الإسلامية)، وأما قول الحافظ ابن حجر في معرض تعقيبه على ابن الصلاح في مسألة التصحيح في العصور المتأخرة: " فيلزم على الأول (يعني قول ابن الصلاح: فآل الأمر إلى الاعتماد على ما نص عليه ائمة الحديث في تصانيفهم المعتمدة) تصحيح ما ليس بصحيح، لأن كثيراً من الأحاديث التي صححها المتقدمون اطلع غيرهم من الأئمة فيها على علل تحطها عن رتبة الصحة، ولا سيما من كان لا يرى التفرقة بين الصحيح والحسن " (النكت 1/ 270) فيعني به تصحيح المتساهلين من المتقدمين؛ كابن خزيمة وابن حبان والحاكم، دون التعميم على جميع المتقدمين النقاد، ولذا عقبه بقوله: " فكم في كتاب ابن خزيمة من حديث محكوم منه بصحته، وهو لا يرتقي عن رتبة الحسن،وكذا في كتاب ابن حبان، بل وفيما صححه الترمذي من ذلك جملة مع أن الترمذي يفرق بين الصحيح والحسن ".ولذا فإن قول الحافظ ابن حجر هذا لا يتعارض مع الذي نقلناه عنه من ضرورة الرجوع إلى تصحيح المتقدمين وتعليلهم، وتسليم الأمر لهم فيهما. والله أعلم.
(6) الحافظ السخاوي، فتح المغيث 1/ 237 (الناشر المكتبة السلفية بالمدينة المنورة، ط 2 سنة 1388هـ).
(7) نقله الحافظ ابن حجر العسقلاني في " النكت على كتاب ابن الصلاح " 2/ 604، والصنعاني في توضيح الأفكار 1/ 312.
(8) الحافظ بن حجر، شرح نخبة الفكر ص: 13، وانظر أيضاً كتابه " النكت على مقدمه ابن الصلاح " 2/ 692.
¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير