وقد اختلف أهل العلم في القول بموجب هذه الأحاديث. فذهب أكثرهم إلى القول باستحباب صومها. منهم الشافعي وأحمد وابن المبارك وغيرهم. وكرهها آخرون. منهم: مالك. وقال مطرف: كان مالك يصومها في خاصة نفسه. قال: وإنما كره صومها لئلا يلحق أهل الجاهلية ذلك برمضان. فأما من يرغب في ذلك لما جاء فيه فلم ينهه.
وقد اعترض بعض الناس على هذه الأحاديث باعتراضات , نذكرها , ونذكر الجواب عنها إن شاء الله تعالى.
الاعتراض الأول: تضعيفها. قالوا: وأشهرها: حديث أبي أيوب , ومداره على سعد بن سعيد , وهو ضعيف جدا , تركه مالك , وأنكر عليه هذا الحديث , وقد ضعفه أحمد وقال الترمذي: تكلموا فيه من قبل حفظه. وقال النسائي: ليس بالقوي وقال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج بحديث سعد بن سعيد.
وجواب هذا الاعتراض: أن الحديث قد صححه مسلم وغيره.
وأما قولكم: يدور على سعد بن سعيد , فليس كذلك , بل قد رواه صفوان بن سليم ويحيى بن سعيد , أخو سعد المذكور , وعبد ربه بن سعيد , وعثمان بن عمر الخزاعي.
أما حديث صفوان: فأخرجه أبو داود والنسائي وابن حبان.
وأما حديث يحيى بن سعيد: فرواه النسائي عن هشام بن عمار عن صدقة بن خالد , متفق عليهما , عن عتبة بن أبي حكيم. وثقه الرازيان وابن معين وابن حبان عن عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام , وعبد الملك بن محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حزم وإسماعيل بن إبراهيم الصائغ: ثلاثتهم عن يحيى بن سعيد عن عمر به.
فإن قيل: فقد رواه حفص بن غياث , وهو أثبت ممن ذكرت , عن يحيى بن سعيد عن أخيه سعد بن سعيد عن عمرو بن ثابت , فدل على أن يحيى بن سعيد لم يروه عن عمر بن ثابت وإلا لما رواه عن أخيه عنه ورواه إسحاق بن أبي فروة عن يحيى بن سعيد عن عدي بن ثابت عن البراء , فقد اختلف فيه.
قيل: رواية عبد الملك ومن معه عن يحيى بن سعيد , أرجح من رواية حفص بن غياث , لأنهم أتقن وأكثر , وأبعد عن الغلط , ويحتمل أن يكون يحيى سمعه من أخيه , فرواه كذلك , ثم سمعه من عمر , ولهذا نظائر كثيرة , وقد رواه عبد الله بن لهيعة عن عبد ربه بن سعيد عن أخيه يحيى بن سعيد عن عمر , فإن كان يحيى إنما سمعه من أخيه سعد فقد اتفقت فيه رواية الإخوة الثلاثة له , بعضهم عن بعض.
وأما حديث عبد ربه بن سعيد فذكره البيهقي , وكذلك حديث عثمان بن عمرو الخزاعي. وبالجملة: فلم ينفرد به سعد , سلمنا انفراده , لكنه ثقة صدوق , روى له مسلم , وروى عنه شعبة وسفيان الثوري وابن عيينة وابن جريج وسليمان بن بلال , وهؤلاء أئمة هذا الشأن. وقال أحمد كان شعبة أمة وحدة في هذا الشأن , قال عبد الله: يعني في الرجال وبصره بالحديث , وتثبته , وتنقيته للرجال: وقال محمد بن سعد: شعبة أول من فتش عن أمر المحدثين , وجانب الضعفاء والمتروكين , وصار علما يقتدى به , وتبعه عليه بعده أهل العراق.
وأما ما ذكرتم من تضعيف أحمد والترمذي والنسائي فصحيح.
وأما ما نقلتم عن ابن حبان: فإنما قاله في سعد بن سعيد بن أبي سعيد المقبري , وليس في كتابه غيره وأما سعد بن سعيد الأنصاري المدني فإنما ذكره في كتاب الثقات وقد قال أبو حاتم الرازي عن ابن معين: سعد بن سعيد صالح , وقال محمد بن سعد: ثقة , قليل الحديث , وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: كان سعد بن سعيد مؤديا , يعني أنه كان يحفظ ويؤدي ما سمع. وقال ابن عدي: له أحاديث صالحة , تقرب من الاستقامة , ولا أرى بحديثه بأسا مقدار ما يرويه , ومثل هذا إنما ينفي ما ينفرد به , أو يخالف به الثقات , فأما إذا لم ينفرد وروى ما رواه الناس فلا يطرح حديثه.
سلمنا ضعفه لكن مسلم إنما احتج بحديثه لأنه ظهر له أنه لم يخطئ فيه بقرائن ومتابعات ولشواهد دلته على ذلك , وإن كان قد عرف خطؤه في غيره , فكون الرجل يخطئ في شيء لا يمنع الاحتجاج به فيما ظهر أنه لم يخطئ فيه , وهكذا حكم كثير من الأحاديث التي خرجاها , وفي إسنادها من تكلم فيه من جهة حفظه , فإنهما لم يخرجاها إلا وقد وجدا لها متابعا.
وههنا دقيقة ينبغي التفطن لها , وهي أن الحديث الذي روياه أو أحدهما واحتجا برجاله أقوى من حديث احتجا برجاله: ولم يخرجاه , فتصحيح الحديث أقوى من تصحيح السند.
¥