تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وعليه، فقد لوحظ في كلام السيوطي ما يلفت الانتباه من كونه خص الحديث الصحيح لذاته بضرورة انتفاء الشذوذ والعلة كشرط أساسي له، دون الصحيح لغيره، وهذا منه غير مقبول، بل هو مرفوض قطعا، لأن الخلو من الشذوذ والعلة شرط أيضا للصحيح لغيره، كما هو شرط كذلك في الحسن لذاته ولغيره، ولهذا قلت سابقا: إن السيوطي ـ رحمه الله ـ في سبيل توجيهه لقول ابن الصلاح قد ذهب بعيدا عن الواقع العلمي الذي لا ينبغي العدول عنه.

فبما أن سلامة الحديث من الشذوذ والعلة تعتبر أهم شروط القبول ـ على اختلاف مستوياته ـ فتخصيصه الصحيح لذاته بذلك الشرط دون سواه أمر يرفضه الإنصاف العلمي. وبناء على هذا، فإن كان كشف الشذوذ والعلة مما يعجز عنه المتأخرون لبعد عصرهم عن عصر النبي صلى الله عليه وسلم، وطول الأسانيد عندهم، فإن المنع وارد أيضا في الصحيح لغيره إذا كان في رجال إسناده راو خف ضبطه، إضافة إلى وروده من طريق أخرى سواء على وجه المتابعة أو الاستشهاد. فالفصل بينهما بالمنع والجواز تكلف ظاهر، على أن الصحيح لذاته عندهم معناه: أن يكون رواة الحديث ثقاة عدولا، مع اعتبار شروط أخرى من اتصال وخلو من العلة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الصحيح لغيره إذا كان في رجال إسناده راو خف ضبطه، إضافة إلى وروده من طريق أخرى سواء على وجه المتابعة أو الاستشهاد.

والجدير بالذكر أنه لا يلزم من ورود الحديث من طريق آخر ـ متابعة أو استشهادا ـ انعدام الشذوذ كليا إذ للشذوذ والعلة منافذ، ومداخل أخرى، حيث إن المتابعة تنفي الشذوذ عمن له المتابعة، وأما بقية الرواة فمعرضون لاحتمال الشذوذ والعلة، وكذلك الأمر في الشاهد فإنه ينفي الشذوذ والعلة عن المتن الذي له شواهد، وأما سنده فمحتمل لوجود الشذوذ والعلة فيه.

وعلى فرض تسليم أن الشذوذ والعلة يزولان بشكل دائم بورود الحديث من طريق أخر ـ متابعة أو استشهادا ـ فمعنى هذا أن الكشف عنهما، والتأكد من خلو الحديث منهما ـ من خلال وروده من وجه آخر ـ ليس من خاصية المتقدمين وحدهم، بل يشاركهم فيه المتأخرون أيضا، فأبطل هو ـ رحمه الله ـ بقوله هذا استدلاله بما ذكره على منع التصحيح، ولم يعد سائغا له أن يقول: والوقوف على الشذوذ والعلة الآن متعسر بل متعذر لأن الإطلاع على العلل الخفية، إنما كان للأئمة المتقدمين لقرب أعصارهم من عصر النبي صلى الله عليه وسلم ـ قلت: " لا يسوغ له أن يقول هذا لأن المتأخر بإمكانه الوقوف على زوال الشذوذ والعلة بمجرد معرفته أن الحديث ورد من طريق أخرى، كما يفهم من آخر كلامه حين قال: " أما القسم الثاني فهذا لا يمنعه ابن الصلاح ولا غيره، وعليه يحمل صنيع من كان في عصره ومن جاء بعده ... "

يضاف إلى هذا أنه ورد عن ابن الصلاح ما يرد دعوى السيوطي ـ رحمه الله ـ من أن الكشف عن الشذوذ والعلة من طرف المتأخرين متعسر بل متعذر، وذلك قوله في مبحثه حول كتاب المستدرك للحاكم: " فالأولى أن نتوسط في أمر فنقول: ما حكم بصحته ولم نجد ذلك فيه لغيره من الأئمة، إن لم يكن من قبيل الصحيح فهو من قبيل الحسن يحتج به ويعمل به إلا أن تظهر فيه علة توجب ضعفه "، فهذا كلامه ـ رحمه الله ـ صريح في احتمال توصل المتأخرين إلى اكتشاف العلة، فأصبح قول السيوطي ـ رحمه الله تعالى ـ مجرد دعوى بلا دليل.

وتجدر الإشارة إلى أن الحديث إذا ورد بإسناد واحد، ولم تتعدد طرقه، فإن جميع النقاد متقدمين كانوا أو ممتأخرين قد يعجزون عن تصحيحه، بل أحيانا ينتقلون إلى تعليله في حاله ما إذا تأكد تفرده في الطبقات المتأخرة، لأن العلة إنما تظهر وتدرك في حالتين هما: حالة التفرد، وحالة المخالفة، ولهذا صرح كثير من النقاد إن الحديث إذا لم تجمع طرقه لا تظهر صحته ولا علته، قال يحي بن معين: " لو لم نكتب الحديث من ثلاثين وجها ما عقلناه " (26).

وقال الإمام أحمد: " الحديث إذا لم تجمع طرقه لم تفهمه، والحديث يفسر بعضه بعضا" (27) وقال ابن المديني:" الباب إذا لم تجمع طرقه لم يتبين خطؤه" (28).

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير