فمثل هذا إذا جاءنا بحديث بالأحكام قلنا: ضعيف؛ لأنه ليس بضابط لأحاديث الأحكام، ومن شرط صحة الحديث أن يكون راويه ضابطا، وهذا غير ضابط في هذا الفن.
وأما إذا روى في السيرة والمغازي فنقول: حديثه صحيح؛ لانطباق شرط الصحيح عليه وهو الإتقان.
فصار عندنا الضبط لاعتبار الإطلاق والتقييد هو من أهم الأمور التي ينبغي أن يعتني بها دارس هذا الفن؛ لأننا أحيانا نجد مثل: أن بعض الرواة يذكر-في كتب المختصرات كـ " التقريب " وغيره -أن فلانا ثقة أو ثبت أو حافظ أوغير ذلك من الألفاظ.
فإذا قرأنا في الكتب المطولة وجدنا أن هذا الحكم على سبيل العموم، لكن في بعض الأحوال يكون حديثه ضعيفا.
نقول أو نجد العكس، نجد أن الراوي -مثلا- يكون ضعيفا: مثل ما يوصف به -مثلا- " زياد بن عبد الله البكاي " يوصف بأنه ضعيف في الكتب المختصرة.
لكن إذا رأيت ترجمته في الكتب المطولة وجدت أن العلماء يثبتون روايته ويجعلونها من أحسن الروايات وأكملها وأثبتها، بل بعضهم يجعلها أثبتها في روايته للمغازي والسيرة عن " ابن إسحاق ".
فالشاهد من ذلك: أنه ينبغي الاعتناء بالضبط -الضبط المطلق والضبط المقيد- فليس كل ضابط، يعني: فليس كل ضعيف لا يصح حديثه مطلقا إلا إذا كان ضعيفا مطلقا، وليس كل ثقة يصح حديثه مطلقا إلا إذا كان حافظا مطلقا لم يقيد بشيء أو براو من الرواة.
وهذا الضبط أو تمام الضبط: يعني كيف نعرفه من كلام أهل العلم؟ عرفنا أن الضابط -كما تقدم- هو الذي تكون السلامة على حديثه أكثر، وأن الخطأ إذا وقع منه فلا يقع إلا نادرا أو قليلا.
فكيف نطبق ذلك على الرجال الذين تكلم فيهم أئمة الجرح والتعديل؟ لأن العلماء لا تجدهم يفصلون لك في الراوي بحسب الاصطلاح المعهود عندنا؛ لأن هذا الاصطلاح ما هو إلا قواعد كلية تندرج تحتها الأمثلة التي ذكرها الأئمة.
فالضابط أو راوي الحديث الصحيح يعبر عنه بـ " ضابط " وهذا ليس بكثير، قليلا ما تجد أن العلماء يقولون في فلان بأنه " ضابط " الكثير تجد " حافظا " وتجد أيضا " متقنا " لكن كلمة " ضابط " فيها نوع قلة بالنسبة لهذين الأمرين.
لكن يستفاد هذا الحكم -أو على الرجل- بتمام الضبط من عبارات أئمة الجرح والتعديل في مراتب التحذير والتوثيق، وهذه لا تكون إلا بعد -يعني- دراسة.
فهناك مراتب -ذكرها أهل العلم- راويها يكون حديثه صحيحا، فأحيانا يقال: فلان ثقة حجة متقن، وأحيانا يقول: إليه المنتهى، وأحيانا يقول: فلان لا يسأل عنه، وأحيانا: فلان ثبت، وغيرها من الأمثلة الكثير.
كلها تدل على ضبط الراوي وتمام ضبطه، والرواة -حتى الموصوفون بالضبط هؤلاء- يتفاوتون في الضبط، لكن يجمعهم قاسم مشترك وهو: أن الغالب على حديثهم السلامة والصحة.
وأحيانا يستفاد تمام الضبط من العبارة المركِبة للعدالة وتمام الضبط وهي كلمة " الثقة "؛ فإذا قالوا في راو بأنه ثقة فمعناه أنه يجمع بين العدالة وتمام الضبط.
فهذه ثلاثة أشياء قد يستعان بها على فهم مراد العلماء من الحديث، أو من إطلاق العلماء، أو من معرفة تام الضبط عند علماء هذا الفن، وهي لا تظهر جليا وواضحا إلا بعد التقصي والدراسة التامة لمراتب الجرح والتعديل والمفاضلة بين الأئمة الحفاظ.
وهذا الضبط الذي ذكره العلماء لا يلزم منه -أن يكون أو- وصف الراوي بأنه ضابط أو تام الضبط، لا يلزم منه أن يكون عدلا، كما لا يلزم من وصف الراوي بأنه عدل أن يكون ضابطا.
فالقاعدة: أنه لا تلازم بين العدالة والضبط، فقد يوصف الراوي بأنه حافظ وثقة ومتقن، ولكنه ليس بعدل، وقد يوصف الراوي بأنه عدل في دينه، ولكنه ليس بحافظ.
ويدلنا على هذا: أن ابن أبي حاتم -رحمه الله- سأل أبا زرعة عن رجل؟ فقال أبو زرعة: حافظ، فقال ابن أبي حاتم: أصدوق هو؟ يعني: أهو عدل في دينه؟ فلم يكتف ابن أبي حاتم بقوله: ضابط؛ لأنها لا تدل على التوثيق، ولا تدل على العدالة، وإنما تدل على الحفظ.
ولهذا؛ لما سئل وكيع بن الجراح عن رجل قال: " رجل صالح -يعني في دينه- وللحديث أهل " يعني: ليس من أهل الحديث، بمعنى: أنه لا يضبط الحديث ولا يحفظه، وإن كان صالحا في دينه.
¥