ثم عليه أن يعلل ويوجه الحجج التي اعتمد العلماء في تخريج أقوال الأئمة كالإمام أحمد وغيره كما حاول في كتابه توجيه عبارة:"لا أعلم له سماعا".
قال (162):" أعود فأقول: ما دليلُك أنهم قاموا باستقراءٍ أَوْصَلَهُم إلى تلك النتيجة؟ اللهمّ إلا إن كان دليلك: أنهم لا يقولون قولاً إلا بناءً على استقراء!!! "
الجواب: حسن الظن بأهل العلم يفرض علينا أن نزعم أنهم لا يقولون قولا إلا بعلم، والعلم في هذا الباب يثبت بالنص والاستقراء. ومن العلماء الذين لهم استقراء لا نقاش فيه ابن حجر الذي قال في هدي الساري (14): «والبخاري لا يحمل ذلك على الاتصال حتى يثبت اجتماعهما ولو مرة، وقد أظهر البخاري هذا المذهب في تاريخه وجرى عليه في صحيحه، وأكثر منه حتى إنه ربما خرج الحديث الذي لا تعلق له بالباب جملة إلا ليبين سماع راو من شيخه لكونه قد أخرج له قبل ذلك شيئًا معنعنا، وسترى ذلك واضحًا في أماكنه ـ إن شاء الله تعالى ـ». عند الشيخ مخالفة مسلم طعن في علمه وورعه، ومخالفته هو لأهل الحديث على مدى قرون ليست طعنا فيهم.
ونسأل الشيخ كيف خرج ابن رجب مذهب الإمام أحمد بالاستقراء أم بالظن والتخمين؟ وممن يعتمد على استقرائه في خصوص البخاري الشيخ خالد الدريس، الذي قال في مقدمة دراسته (ص19):" سأقوم إن شاء الله باستقراء وتتبع لنصوص البخاري التطبيقية المتعلقة بالمسألة ". ولقد أفاد جدا في حشد الأمثلة والنصوص، حتى أن الشيخ حاتم لا ينكر استفادته منه.
وكم أعجبني تورع الشيخ اللاحم عن الجزم بما ظهر له من مذهب ابن حبان لأنه وجده معارضا بقول الحافظ ابن رجب فقال (161):" وما ذكره ابن رجب يحتمل أن يكون أخذه استقراء من صنيع ابن حبان في صحيحه، لكن لابن حبان كلام قوي جدا في اشتراط العلم بالسماع كرره في كتابه الثقات".
قال (163):" ثانيًا: بيّنّا آنفًا -في هذا البحث- أن (صحيح البخاري) لا ينفع أن يكون دليلاً على اشتراطه العلم بالسماع، فلا حاجةَ لإعادة ما ذكرناه. وبيّنّا أيضًا أن أقوال البخاري خارج صحيحه بنفي العلم بالسماع لا تدلّ -ولا من وجه- على اشتراط العلم به.
فأيُّ استقراءٍ -بعد هذا- قام به العلماء فأوصلهم إلى تلك النتيجة؟! "
الجواب: هذه القاعدة لا يسلم بها عاقل فضلا عن عالم ولا أظن أنها خطرت ببال العلماء المتقدمين، الشيخ حاتم يرفض الرجوع إلى كلام البخاري لتحقيق مذهبه، ويرجع إلى كلام غيره لتحقيق مذهبه، إلى كلام من نقل الإجماع كالحاكم كيف نقل الحاكم الإجماع كيف يستطيع أن يزعم أن البخاري وأحمد وابن المديني وابن معين كانوا يكتفون بالمعاصرة، إذا كنت تحجر عليه أن يرجع إلى كلامهم.
قال (163):"ثالثًا: صورة الاستقراء التي يظن صاحبُ هذه الشبهة أن العلماء قد قاموا بها، والتي يطالبني بالقيام بها حتّى يصحّ لي الردّ عليهم (في رَأْيِه) هي الصورة التالية:
أن آتي إلى كل إسنادٍ في صحيح البخاري، وإلى كل راويين في كل إسنادٍ فيه، روى أحدهما عن الآخر بالعنعنة، لأبحثَ حينها في جميع روايات ذلك الراوي عمّن روى عنه، لا في صحيح البخاري وحده، ولا في الكتب الستة، ولا الستين. ."
الجواب: أما الاستقراء الذي وصفه فهو الاستقراء التام الذي لا يكاد يقع ولا يشترطه إلا المناطقة و المتأثرون بمنهجهم وابن حزم وأمثاله من الظاهرية الذي لا يقبلون إلا الاستدلال بالقطعيات. أما جماهير العلماء فيحتجون بالاستقراء ويرون إمكانه ولا يشترطون فيه أن يكون تاما ويزعمون أنه ظني قابل للتعديل وللتخطئة، لكن لا يعدل ولا يخطأ إلا باستقراء مقابل، وإذا أطلق الاستقراء في لسان علماء الشريعة فهذا هو المعنى المقصود، ومنه يعلم فساد قول الشيخ حاتم (164):"أمّا الاستقراء الذي يُطالبني به صاحبُ هذه الشبهة، فهو نفس الاستقراء السابق ... الخ.
لكني أعود فأختم الردّ على هذه الشبهة بأن أقول: مَنْ قال إنّ الحجّة في الاستقراء وحده، ولا حجّة في غير الاستقراء؟! حتى تُلزمني به!! "
الجواب: إذا لم تكن الحجة في الاستقراء فأين الحجة إذن؟ حتى نلتزمها في البحث، إن الاستقراء منهج إسلامي في الكشف عن الحقائق معتمد في علم الفقه والأصول واللغة والحديث، فلماذا لا يكون حجة في مسألة الإسناد المعنعن.
"قال (164 - 165) أين ذهب الإجماع الذي توارد على نقله جمعٌ من أهل العلم؟!
أين ذهبت أقوال البخاري وتصرّفاته الدالة على نقض تلك الدعوى؟!
أين ذهبت أقوال وتصرّفات بقيّة العلماء الدالة على نَقْضِها أيضًا؟! "
الجواب: هذا الكلام يجعلني أقول عن الشيخ حاتم لم يتصور جيدا معنى الاستقراء، فنقل مذهب إمام واحد لا يكون إلا باستقراء فكيف بنقل الإجماع، وتتبع أقوال البخاري وتصرفاته هو الاستقراء الذي يطالبك به خصمك لا شيء غير هذا.
الخلاصة أن أكثر ما جاء في هذا الكتاب فيه أغلاط ومغالطات، وما كثر فيه الغلط وغلب عليه وجب اطراحه، ولقد اجتهدت حسب ما سنح به الوقت تجلية ذلك وشرحه لئلا يغتر بتهويل الشيخ حاتم وجلبته، وجاهدت نفسي قدر المستطاع وألزمتها أن لا تسلك مسلكه في المناقشة والرد، حتى ننقص من الكلام فيما لا ينفع ونحافظ على سلامة القلوب، نسأل الله تعالى أن يصلح أحوالنا، وآخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين.
كان الفراغ منه مساء الخميس 12 جمادى الآخرة 1428هـ الموافق لـ28جوان 2007م
أبو عبد الله محمد حاج عيسى الجزائري
¥