تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وكان قبل ذلك فيلسوفا، فتابعها - يقال: تقية - واجتمعت به النصارى، وتناظروا في زمانه مع عبد الله بن أريوس، واختلفوا اختلافا [كثيرا] منتشرا متشتتا لا ينضبط، إلا أنه اتفق من جماعتهم ثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا، فوضعوا لقسطنطين العقيدة، وهي التي يسمونها الأمانة الكبيرة، وإنما هي الخيانة الحقيرة، ووضعوا له القوانين - يعنون كتب الأحكام من تحليل وتحريم وغير ذلك مما يحتاجون إليه، وغيروا دين المسيح، عليه السلام، وزادوا فيه ونقصوا منه. وفصلوا إلى المشرق واعتاضوا عن السبت بالأحد، وعبدوا الصليب وأحلوا الخنزير. واتخذوا أعيادا أحدثوها كعيد الصليب والقداس والغطاس، وغير ذلك من البواعيث والشعانين، وجعلوا له الباب وهو كبيرهم، ثم البتاركة، ثم المطارنة، ثم الأساقفة والقساقسة، ثم الشمامسة. وابتدعوا الرهبانية. وبنى لهم الملك الكنائس [ص: 302] والمعابد، وأسس المدينة المنسوبة إليه وهي القسطنطينية، يقال: إنه بنى في أيامه اثني عشر ألف كنيسة، وبنى بيت لحم بثلاثة محاريب، وبنت أمه القمامة، وهؤلاء هم الملكية، يعنون الذين هم على دين الملك.

ثم حدثت بعدهم اليعقوبية أتباع يعقوب الإسكاف، ثم النسطورية أصحاب نسطورا، وهم فرق وطوائف كثيرة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنهم افترقوا على اثنتين وسبعين فرقة ". والغرض أنهم استمروا على النصرانية، كلما هلك قيصر خلفه آخر بعده، حتى كان آخرهم هرقل. وكان من عقلاء الرجال، ومن أحزم الملوك وأدهاهم، وأبعدهم غورا وأقصاهم رأيا، فتملك عليهم في رياسة عظيمة وأبهة كبيرة، فناوأه كسرى ملك الفرس، وملك البلاد كالعراق وخراسان والري، وجميع بلاد العجم، وهو سابور ذو الأكتاف. وكانت مملكته أوسع من مملكة قيصر، وله رياسة العجم وحماقة الفرس، وكانوا مجوسا يعبدون النار. فتقدم عن عكرمة أنه بعث إليه نوابه وجيشه فقاتلوه، والمشهور أن كسرى غزاه بنفسه في بلاده فقهره وكسره وقصره، حتى لم يبق معه سوى مدينة قسطنطينية. فحاصره بها مدة طويلة حتى ضاقت عليه، وكانت النصارى تعظمه تعظيما زائدا، ولم يقدر كسرى على فتح البلد، ولا أمكنه ذلك لحصانتها; لأن نصفها من ناحية البر ونصفها الآخر من ناحية البحر، فكانت تأتيهم الميرة والمدد من هنالك. فلما طال الأمر دبر قيصر مكيدة، ورأى في نفسه خديعة، فطلب من كسرى أن يقلع عن بلاده على مال يصالحه عليه، ويشترط عليه ما شاء. فأجابه إلى ذلك، وطلب منه أموالا عظيمة لا يقدر عليها أحد من ملوك الدنيا، من ذهب وجواهر وأقمشة وجوار وخدام وأصناف كثيرة. فطاوعه قيصر، وأوهمه أن عنده جميع ما طلب، واستقل عقله لما طلب منه ما طلب، ولو اجتمع هو وإياه لعجزت قدرتهما عن جمع عشره، وسأل كسرى أن يمكنه من الخروج إلى بلاد الشام وأقاليم مملكته، ليسعى في تحصيل ذلك من ذخائره وحواصله ودفائنه، فأطلق سراحه، فلما عزم قيصر على الخروج من مدينة قسطنطينية، جمع أهل ملته وقال: إني خارج في أمر قد أبرمته، في جند قد عينته من جيشي، فإن رجعت إليكم قبل الحول فأنا ملككم، وإن لم أرجع إليكم قبلها فأنتم بالخيار، إن شئتم استمررتم على بيعتي، وإن شئتم وليتم عليكم غيري. فأجابوه بأنك ملكنا ما دمت حيا، ولو غبت عشرة أعوام. فلما خرج من القسطنطينية خرج جريدة في جيش متوسط، هذا وكسرى مخيم على القسطنطينية ينتظره ليرجع، فركب قيصر من فوره وسار مسرعا حتى انتهى إلى بلاد فارس، فعاث في بلادهم قتلا لرجالها ومن بها من المقاتلة، أولا فأولا ولم يزل يقتل حتى انتهى إلى المدائن، وهي كرسي مملكة كسرى، فقتل من بها، وأخذ جميع حواصله وأمواله، وأسر نساءه وحريمه، وحلق رأس ولده، وركبه على [ص: 303] حمار وبعث معه من الأساورة من قومه في غاية الهوان والذلة، وكتب إلى كسرى يقول: هذا ما طلبت فخذه. فلما بلغ ذلك كسرى أخذه من الغم ما لا يحصيه إلا الله عز وجل، واشتد حنقه على البلد، فاشتد في حصارها بكل ممكن فلم يقدر على ذلك. فلما عجز ركب ليأخذ عليه الطريق من مخاضة جيحون، التي لا سبيل لقيصر إلى القسطنطينية إلا منها، فلما علم قيصر بذلك احتال بحيلة عظيمة لم يسبق إليها، وهو أنه أرصد جنده وحواصله التي معه عند فم المخاضة، وركب في

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير