تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ومما يؤكد هذه الدقة أن حسابات الكسوف والخسوف دقيقة جدا رغم أنها أصعب بعشرات المرات من حساب بداية الشهر القمري، ومع ذلك يحدد العلماء قبل عشرات بل مئات السنين مواعيد الكسوف والخسوف باليوم والساعة والدقيقة، ويحددون الأماكن التي يرى منها، وكم سيستمر، وهل سيكون كليا أم جزئيا، وكل ذلك يتحقق بدقة كما يعرف المتابعون لذلك، فإلى متى يمكن تجاهل ذلك؟ ولماذا يتم تجاهله؟ ولماذا يريد البعض أن يضع الإسلام في موضع المعارضة للحقائق العلمية الحديثة؟ وأن يوقع الإسلام في مثل ما أوقعت به الكنيسة في أوروبا نفسها، مما أدى إلى فصل الدين عندهم عن الحياة، ولمصلحة من يتم ذلك؟ بالرغم من أن الإسلام - وهو دين العلم - لم ينه عن الأخذ بالحساب والتقدير وبخاصة إذا كان قطعيا، بل قد أشار إليه، بل قد أمر به، كما سبق ذكره في أدلة أصحاب الرأي الثاني.

وهكذا يمكن فهم الحديثين المتعلقين بحالة الغيم (فإن غم عليكم فأكملوا) و (فإن غم عليكم فاقدروا) بشكل متكامل، فإنه لا تعارض بين الحديثين، وإنما يطبق كل منهما في حالة غير الأخرى، فإن كان الحساب ظنيا، أو كانت الأمة أمية في هذا المجال فالحكم الشرعي هنا هو الإكمال، وأما إن كان الحساب قطعيا أو قريبا من ذلك فإن المطلوب في هذه الحالة هو التقدير، ولعل أول من قال بهذا الرأي هو ابن سريج أحد كبار الفقهاء في القرن الثالث الهجري، ولذلك نقل ابن العربي عنه أن حديث (فاقدروا) خطاب لمن خصه الله بهذا العلم.

وهكذا فإنه يتبين من خلال مناقشة الرأيين أن الرأي الثاني الذي يأخذ بالحساب والتقدير هو الأرجح في عصرنا بعد أن زالت عن الأمة الإسلامية أُمِّيَتُها، وبعد أن أصبح علم الفلك في مجال حساب حركة القمر والأرض علما قطعيا.

هل التقدير للإثبات والنفي أم للنفي فقط؟:

فرَّق بعض العلماء بين الأخذ بالحساب بين حالتي النفي والإثبات، فقالوا لا نثبت الشهر إلا بالرؤية أو الإكمال في حالة الغيم تطبيقا للأحاديث التي استدل بها الفريق الأول، ولا يأخذون بالحساب إلا في نفي شهادة الشهود إذا شهدوا برؤية الهلال وكان الحساب يقول باستحالة تلك الرؤية.

وقد ظهر هذا الرأي في وقت متأخر نسبيا، حيث بدأت الأمة تخرج من أميتها الفلكية، وبدأت الحسابات تدل على استحالة بعض الشهادات، ولعل أول من قال بهذا - إذا كانت الحسابات قطعية في النفي لا في الإثبات - هو تقي الدين السبكي في القرن الثامن الهجري حيث قال: وهاهنا صورة أخرى وهو أن يدل الحساب على عدم إمكان رؤيته … فلو أُخبرنا به بخبر واحد أو أكثر ممن يحتمل خبره الكذب أو الغلط .. لم تقبل الشهادة، لأن الحساب قطعي والشهادة والخبر ظنيان، والظن لا يعارض القطع فضلا عن أن يقدم عليه، والبينة شرطها أن يكون ما شهدت به ممكنا حسا وعقلا وشرعا .. والشرع لا يأتي بالمستحيلات.

ولم يثبت السبكي الشهر بالحساب لسبب ذكره فقال: إن الحساب - لدخول الشهر - إنما يقتضي الإمكان، ومجرد الإمكان لا يجب أن يرتب عليه الحكم .. والفرق بينه وبين أوقات الصلاة أن الغلط قد يحصل هنا كثيرا بخلاف أوقات الصلاة يحصل القطع أو قريب منه غالبا. فسبب أخذه بالحساب في النفي فقط هو أن علم الفلك في عصره - أي قبل سبعة قرون - كان قطعيا في النفي دون الإثبات، أو هكذا ظن السبكي رحمه الله ولذلك فإن السبكي ممن يقول باعتماد الحساب في الإثبات أيضا إذا صار الحساب قطعيا كما في عصرنا.

وممن قال به من المتأخرين الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الأزهر، والشيخ علي الطنطاوي حيث يقول: وهذا الحساب قطعي، بينما الشهادة على الرؤية غير قطعية فربما توهم الشاهد أو كذب … وخلاصة رأي السبكي الذي يجمع بين العمل بحديث (صوموا لرؤيته) وبين حقائق علم الفلك هي أن نسأل أولا علماء الفلك هل يمكن أن يُرى الهلال هذه الليلة؟ فإن قالوا: نعم، تحرينا رؤيته … وإن قالوا بأنه لا يمكن أن يُرى رددنا شهادات الشهود … وأنا أرجو ممن يقرأ هذه الفتوى … أن يفكر في رأي السبكي فإن فيه العمل بالسنة وفيه اتباع حقائق العلم، وأرجو من أهل العلم وأرباب الأقلام أن يتكلموا فيه.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير