ومن يطبق مناهج الأئمة النقاد في الأحكام على روايات التفسير قد أخطأ في ذلك، وقد اشتهر عند من لا عناية له من المتأخرين تطبيق تلك القواعد الحديثية التي نصَّ عليها العلماءُ فيما يسمى بعلوم الحديث ومصطلح الحديث على أسانيد التفسير، وهذا مخالف لمناهج الأئمة، وقد بلغ ببعضهم التشدد في هذا الباب، فردَّ مروياتِ كثيرٍ من المفسرين مطلقاً؛ كمرويات السُّدي إسماعيل بن عبد الرحمن، ومرويات محمد بن كعب، ومرويات ليث بن أبي سليم في روايته عن مجاهد بن جبر، وغيرها باعتبار أن الأسانيد ضعيفة، وهذا إفراط.
وينبغي أن يُعلم أن النقل والحكاية شيءٌ، والاعتماد شيء آخر، ولا يلزم من الأول الآخر.
القرينة الثالثة: أن أصل الاحتجاج والاعتماد في التفسير هو على لغة العرب، وإليها يجب أن يُرجع، قال تعالى: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه) وقال: (بلسان عربي مبين). وأكثر المفسرين ورواة التفسير هم من العرب، وقد نص البيهقي على هذا فقال: (وإنما تساهلوا في أخذ التفسير عنهم، لأنَّ ما فسَّروا به؛ ألفاظُه تشهد لهم به لغاتُ العرب، وإنما عملهم في ذلك الجمعُ والتقريبُ فقط)
القرينة الرابعة: أنَّ جُلَّ مرويات التفسير هي من الموقوفات والمقطوعات، والنُّقاد يتساهلون في الموقوف والمقطوع ما لا يتساهلون في المرفوع.
الموقوفات على الصحابة وحكمها
وإن كان بعض الأئمة يجعل الموقوفَ في التفسير على الصحابة في حُكم المرفوع معنىً، قال الحاكم في كتابه المستدرك: «تفسير الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل عند الشيخين –البخاري ومسلم- حديثٌ مُسند».
وقال في موضع آخر من كتابه: «هو عندنا في حكم المرفوع"، وَمُراده: أنه في حُكمهِ في الِاستدلالِ بِهِ والاحتجَاج، لا أنَّه يُنْسَبُ مرفوعاً، وذلك من وجهين:
الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم مأمورٌ بالبيان لهم، لذا قال تعالى: (لتبين للناس ما نزل إليهم). والمقطوع به أنه بيَّن ما يحتاج إلى بيان، لذا كان آخر ما نزل من القرآن (اليوم أكملت دينكم وأتممت عليكم نعمتي)، ومن تمامُ الدين تمام بيانه المذكور في الآية.
الثاني: أن القرآن إذا نزل يكون مفهوماً، وما نَدَّ عن الفهم يُسأل عنه، وما لم يُسْأَلْ عنه، موكول إلى لغتهم التي نزل بها القرآن وفهموه عليها، فكان سكوتُهم مع علم النبي صلى الله عليه وسلم عن فهمهم، شبيهٌ بالإقرار. هذا ما أراده الحاكم. والأصل أنهم يَسألون عما ينزل ويَنِدُّ عن أفهامهم، فإذا أَشكل على أَحدٍ منهم سأله، فقد سأله أبو بكر الصديق عن قوله تعالى: (من يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ)، وسأله عمرُ عن آية الكلالة، فذكر له آية الصفِّ. ولمَّا نزل: (الَّذِينَ آمَنُوا ولم يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) سأله الصحابة عن معنى الظلم في الآية، وسألتْه أم سلمه عن الحساب في قوله تعالى: (فسوف يحاسب حسابا عسيراً) فبيَّن أن المراد به العرْض.
تفسير الراوي الضعيف
وينبغي التنبه إلى أمرين:
أولاً: أن الراوي إن كان ممن يُضَعَّف، أو كان واهيَ الحديث، أو منكراً، فإنه في باب التفسير إِنْ قال بقوله، فإن هذا قولاً له؛ فلا يقال بردِّه بوجه من الوجوه، وبعض المعتنين يَحْكُم بضعف روايةٍ من الروايات؛ لأن قائلها ضعيف، فكيف تكون ضعيفةً وهي صحيحة إليه وهو قائلها؛ فالسُّديُّ أو الكلبيُّ واهي الحديث جدًا، إلا أنه من أئمة التفسير، ومن المتبصِّرين بلغة العرب؛ فإذا قال قولاً، فينظر إسناده إليه فحسب، وإن كان قال عن غيره، فيفرَّق بين نقله عن غيره وبين قوله هو؛ فقوله هو يعني أنه قد فسر كلام الله تعالى على ما فَهِمَه من لغة العرب، وما يضعف به هو ما ينقله عن غيره؛ لذلك يقال: إن الضعفاء في التفسير ما يفسِّرون من قولهم هو أقوى مما ينقلونه عن غيرهم، ويدخل الضعف في نقلهم ولا يدخل في قولهم؛ لأنهم لا يتكلمون بجهل، وإنما يتكلمون بمعرفةٍ وعلمٍ، والخطأ والغلط يدخل في حفظهم، لا يدخل في معرفتهم، لأن معتمدَهُمُ العربية.
وفي قول يحيى القطان السابق: "هؤلاء لا يحمد حديثهم ويكتب التفسير عنهم": أن كلامهم في التفسير يُكتب ويُعتنى به ما لا يُعتنى بمرويِّهم، فقد يكون فيما يكتب عنهم من البيان للقرآن ما يزيل اللبس عنه، ويكون المُفَسِّرُ عمدةً في فهمه، كما تُعتَمدُ مفردات اللغويين في بيان معانيه.
¥