وقال مجاهد بن جبر عنه، وهو قد عرض القرآن على ابن عباس ثلاث –وقيل ثلاثين- مرة، كما روى الترمذي بسند صحيح عن سفيان بن عيينة عن الأعمش، قال: قال مجاهد: لو كنتُ قرأت قراءة ابن مسعود لم أحتج إلى أن أسأل ابن عباس عن كثيرٍ من القرآن مما سألت.
ولتأخُّر وفاة ابن عباس، ولحاجة الناس إليه، انتشر قوله وكثُر تلاميذه، والمروي عن ابن عباس كثير، يقرب من ستة آلاف أثر، ولكثرة المروي عنه، وقع الغلط في نسبة بعض أقواله، وضبط بعض ألفاظه، ولذا قال ابن تيمية: ما أكثر ما يحرف قول ابن عباس ويَغلَط عليه.
تفسير ابن عباس وعنايته بلغة العرب وأشعارهم
وأكثر تفسيره احتجاج بلغة العرب، وأقوال الفصحاء من الشعراء وغيرهم، بخلاف ابن مسعود؛ فهو يعتني بالقراءات وأسباب النزول.
وجُل تفسير ابن عباس صحيح، وأما ما نقله البيهقي ومحمد بن أحمد بن شاكر القطَّان في "مناقب الشافعي" من طريق ابن عبد الحكم، قال: سمعت الشافعي يقول: لم يثبت عن ابن عباس في التفسير إلا شبيهٌ بمائة حديث، فيظهر أنه قصد ما قصده أحمد بقوله المتقدم: "ثلاثة ليس لها إسناد التفسير والملاحم والمغازي"؛ أي: لا يكاد يوجد فيها ما يسلم من علةٍ على طريقة التشديد، ولعله قصد المرفوع من حديثه.
* وأصحُّ المرويات عن عبد الله بن عباس:
- رواية مجاهد بن جبر عن ابن عباس:
وهي مُقَدَّمْة عند عامة العلماء، إلا ابن المديني، فَإِنَّه يُقَدِّم رواية سعيد بن جبير على مجاهد بن جبر، بل يقدمها على روايات سائر أصحاب عبد الله بن عباس، والأظهر أن رواية مجاهد بن جبر هي أصح الروايات عن عبد الله بن عباس، وتقدم على غيرها عند التضادِّ في الأغلب، إلا في الأحكام؛ فسعيد بن جبير لا يقدم عليه أحد فيها، ولعل هذا ما قصده ابن المديني رحمه الله.
ومجاهد بن جبر قد عرض التفسير على عبد الله بن عباس عرضًا واسعًا، وكرَّره عليه مرارًا، يقول الفضل بن ميمون: قال لي مجاهد بن جبر: " عرضت التفسير على عبد الله بن عباس ثلاثين مرة أُوقفه عند كل آيه "، ولذلك قد استفرغ علمه تفسير القرآن، وكان علمُه جُلُّه فيه.
وقد غلب على حال أصحاب عبد الله بن عباس العنايةُ بشيءٍ من أبواب التفسير على غيره؛ فقد اعتنى مجاهد بن جبر بالمفردات وغريب القرآن وأشعار العرب، وغيره من أصحاب عبد الله بن عباس قد اعتنوا ببعض الأبواب؛ كَعِكْرِمَة مولى عبد الله بن عباس قد اعتنى بأسباب النزول، واعتنى سعيد بن جبير بالأحكام والغيبيات وأكثر من الرواية في الإسرائيليات وغيره مما يأتي الكلام عليه.
قلة رواية مجاهد عن ابن عباس
ثمة أمر ينبغي أن يتنبه له:
أَنَّ مجاهد بن جبر، وإن كان مختصًا بعبد الله بن عباس وعرض عليه التفسير مراراً، إلا أن كثيراً من تفسيره لا ينقله عن ابن عباس، بل هو أقل أصحابه روايةً عنه، يفسر القرآن ولا يعزوه؛ ومع وَفْرة تفسير ابن عباس، إلا أن ما يرويه عنه مجاهد لا يزيد عن المائتين، والعلة في ذلك - فيما يظهر - أن التفسيرَ علم تحصَّل لديه وفَهِمَه على وجهه، فكان من الاحتياط والورع ألا ينسُبَه بلفظه إليه، فربما غايَرَ في اللفظ، ولذلك حينما يعرض الإنسان شيئًا من الألفاظ والمعاني على عالمٍ أكثر من مرةٍ، ويُكثر الأخذ عن عالم من العلماء يخلط قوله بعضه ببعض، وإن كانت المعاني حقيقةً على وجهها، لكن في نسبة اللفظ شيءٌ.
الغلط على ابن عباس
ولكثرة تفسير ابن عباس يقول ابن تيمية: " وما أكثر ما يقع التحريف والغلط على عبد الله بن عباس "؛ أي: فيما يُروى عنه من التفسير، وهذا ما حمل مجاهد بن جبر أن يُقِلَّ الرواية عن عبد الله بن عباس وإن كان علمه جله بل كله في التفسير عن عبد الله بن عباس. وقد رُوي عن مجاهد بن جبر في التفسير ما يقرب من ستة آلاف مروية، إلا أنه ما روى عن ابن عباس إلا نحو مائتي رواية، وهذا قليلٌ جدًا، وذلك لكثرة عرضه عليه؛ فربما في العَرْضة الأولى غاير في اللفظ واتفق في المعنى، وفي العرضة الثانية غاير في اللفظ واتفق في المعنى؛ فلم ينسُب القول إليه لتَحَقُّق اللفظ والمعنى في نفسه أكثر من تحقُّق اللفظ والمعنى عند عبد الله بن عباس؛ فنسب إليه ما تيقن منه ولم ينسب إليه ما لم يتيقن، وهذا من باب الاحتياط.
¥