وأن قول بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا قال برأيه , لو وافقه لم يدل على صحة مخرج الحديث دلالة قوية إذا نظر فيها، ويمكن أن يكون إنما غلط به حين يسمع قول بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يوافقه، ويحتمل مثل هذا فيمن يوافقه بعض الفقهاء))
قال: ((فأما من بعد كبار التابعين، فلا أعلم منهم أحداً يقبل مرسله، لأمور.
أحدها: أنهم أشد تجوزاً فيمن يروون عنه.
والآخر: أنهم توجد عليهم الدلائل فيما أرسلوا بضعف للوهم، وضعف من يقبل عنه)).
انتهى كلامه. وهو كلام حسن جداً، ومضمونه أن الحديث المرسل يكون صحيحاً، ويقبل بشروط: منها في نفس المرسل وهي ثلاثة:
أحدها: أن لا يعرف له رواية عن غير مقبول الرواية؛ من مجهول أو مجروح.
وثانيها: أن لا يكون ممن يخالف الحفاظ إذا أسند الحديث فيما أسنده، فإن كان ممن يخالف الحفاظ عند الإسناد لم يقبل مرسله.
وثالثها: أن يكون من كبار التابعين، فإنهم لا يروون غالباً إلا عن صحابي أو تابعي كبير، وأما غيرهم من صغار التابعين ومن بعدهم فيتوسعون في الرواية عمن لا تقبل روايته.
وأيضاً فكبار التابعين كانت الأحاديث في وقتهم الغالب عليها الصحة، وأنا من بعدهم فانتشرت في أيامهم الأحاديث المستحيلة، وهي الباطلة الموضوعة، وكثر الكذب حينئذ.
فهذه شرائط من يقبل إرساله.
وأما الخبر الذي يرسله، فيشترط لصحة مخرجه وقبوله أن يعضده ما يدل على صحته وأن له أصلاً، والعاضد له أشياء:
أحدها؛ وهو أقواها: أن يسنده الحفاظ المامونون من وجه أخر عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بمعنى ذلك المرسل، فيكون دليلاً على صحة المرسل، وأن الذي أ {سل عنه كان ثقة، وهاذ هو ظاهر كلام الشافعي.
وحينئذ فلا يرد على ذلك، ما ذكره المتأخرون أن العمل حينئذ إنما يكون بالمسند دون المرسل.
وأجاب بعضهم بأنه قد يسنده من لا يقبل بانفراده فينضم إلى المرسل فيصح فيحتج بها حينئذ.
وهذا ليس بشئ، فإن الشافعي اعتبر أن يسنده الحفاظ المأمونون. وكلامه إنما هو في صحة المرسل وقبوله، لا في الاحتجاج للحكمالذي دل عليه المرسل، وبينهما بون.
وبعد أن كتبت هذا وجدت أبا عمرو بن الصلاح، قد سبق إليه وفي كلام أحمد إيماء إليه، فإنه ذكر حديثاً رواه خالد عن أبي قلابة عن ابن عباس، فقيل له: سمع أبو قلابة من ابن عباس أو رآه؟ قال؟ لا، ولكن الحديث صحيح عنه، يعني عن ابن عباس. وأشار إلى أنه روي عن ابن عباس من وجوه آخر.
[ثم وجدت في كلام أبي العباس بن سريج – في رده عل أبي بكر بن داود ما عاترض به على الشافعي – أن مراد الشافعي أن المرسل للحديث يعتبر أن توجد مراسيله توافق ما أسنده الحفاظ المأمونون، فيستدل بذلك على أن لمراسيله أصلاً، فإذا وجدنا له مرسلاً بعد ذلك قبل، وإن لم يسنده الحفاظ، وكأنه يعتبر أن يوجد الغالب على مراسيله ذلك، إذ لو كان معتبراً في جميعها لم يقبل له مرسل حتى يسنده الثقات، فيعود الإشكال.
وهذا الذي قاله ابن سريج مخالف لما فهم الناس من كلام الشافعي، مع مخالفته لظاهر كلامه. والله أعلم].
والثاني: أن يوجد مرسل آخر موافق له، عن عالم يروي عن غير من يروي عنه المرسل الأول فيكون ذلك دليلاً على تعدد مخرجه، وأن له أصلاً، بخلاف ما إذا كان المرسل الثاني لا يروي إلا عمن يروي عنه الأول، فإن الظاهر أن مخرجهما واحد لا تعدد فيه. وهذا الثانيأضعف من الأول.
والثالث: أن لا يجد شئ مرفوع يوافق، لا مسند ولا مرسل، لكن يوجد ما يوافق من كلام بعض الصحابة، فيستدل به على أن للمرسل أصلاً صحيحاً أيضاً. لأن الظاهر أن الصحابي إنما أخذ قوله عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
والرابع: أن لا يجد للمرسل ما يوافقه لا مسند ولا مرسل ولا قول صحابي، لكنه يوجد عامة أهل العلم على القول به، فإنه يدل على أن له أصلاً، وأنهم مسندون في قولهم إلى ذلك الأصل.
فإذا وجدت هذه الشرائط دلت على صحة المرسل وأنه له أصلاً، وقبل واحتج به.
ومع هذا فهو دون المتصل في الحجة، فإن المرسل وإن اجتمعت فيه هذه الشرائد فإنه يحتمل أن يكون في الأصل مأخوذاً عن غير من يحتج به.
ولو عضده حديث متصل صحيح، لأنه يحتمل أن لا يكون أصل المرسل صحيحاً.
¥