والغيبة خصلة ذميمة لا تصدر إلا عن نفس دنيئة، وهي كما عرّفها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((ذِكركَ أخاك بما
يكرهُ))، وهي محرمة بل هي كبيرة من الكبائر وقد ذمها الله سبحانه وتعالى بالقرآن العظيم فقال: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ))، ولا تقتصر على الكلام باللسان، وإنما كل حركة أو إشارة أو إيماءة أو تمثيل أو كتابة في الصحف أو على
الإنترنت، أو أي شيءٍ يفهم منه تنقص الطرف الآخر؛ فكل ذلك حرام داخل في معنى الغيبة، والإثم يزداد بحسب الملأ وكثرتهم الذين يذكر فيهم المغتاب.
واعلم أخي المسلم: أنَّ الغيبة خسارة كبيرة في حسنات العبد؛ فالمغتاب يخسر حسناته ويعطيها رغماً عنه إلى من يغتابه، وهي في نفس الوقت ربح للطرف الآخر؛ حيث يحصل على حسنات تثقل كفته جاءته من حيث لا يدري؛ لذا قال عبد الله بن المبارك - وهو أحد أمراء المؤمنين في الحديث -: ((لو كنت مغتاباً لاغتبت أمي فإنها أحق بحسناتي)).
تأمل أخي المسلم في قول النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فيما رواه عبد الرحمان بن أبي بكرة، عن أبيه: أنه ذكر النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قعد على بعيره، وأمسك إنسان بخطامه أو بزمامه، قال: ((أي يوم هذا؟)) فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال: ((أليس يوم النحر؟)) قلنا: بلى، قال: ((فأيُّ شهر هذا؟)) فسكتنا حتى ظننا أنَّه سيسميه بغير اسمه فقال: ((أليس بذي الحجة؟)) قلنا: بلى، قال: ((فإنَّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ليبلغ الشاهد الغائب فإنَّ الشاهد عسى أنْ يبلغ مَن هو أوعى له منه)).
والذي يتأمل هذا الحديث يعلم حرمة الغيبة، وأنَّها كحرمة يوم النحر في شهر ذي الحجة في الحرم المكي.
ولنتدبر جميعاً قول النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم حينما قال: ((لما عُرِجَ بي، مررتُ بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم، فقلت: مَن هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم)) فالمسلم الذي يحرص على نفسه يتأمل في هذا الحديث ليعلم أنَّ المغتابين يخمشون وجوههم وصدورهم بأظفار من نحاس، وهي أظفار فاقت أظفار الوحوش الضارية ليزدادوا عذاباً جزاءً وفاقاً على أفعالهم القبيحة، وأعمالهم السيئة.
ومن الغيبة أنْ تذكر أخاك المسلم بأي شيء يكرهه حتى وإنْ لم تكن تقصد ذلك فقد صحّ أنَّ عائشة رضي الله عنها قالت: قلت للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: حَسْبُكَ من صفية كذا وكذا - قال غير مسدد تعني قصيرة - فقال: ((لقد قُلْتِ كلمةً لو مزجت بماء البحر لمزجته)) قالت: وحكيتُ له إنساناً فقال: ((ما أحب أني حكيتُ إنساناً وأن لي كذا وكذا)).
والغيبة داءٌ فتّاكٌ ومِعْوَلٌ هدّام يفتك في بنيان المجتمع، وهو أسرع إفساداً في المجتمع من الآكلة في الجسد، والغيبة تُعرِّض العلاقات للانهيار وتزعزع الثقة بين الناس وتغيّر الموازين وتقلع المحبة والألفة والنصرة من بين المؤمنين، وتثبت جذور الشر والفساد بين الناس، وقد بيّن الحسن البصري رحمه الله أجناس الغيبة وحدودها فقال: ((الغيبة ثلاثة أوجه، كلها في كتاب الله تعالى: الغيبة، والإفك، والبهتان، فأما الغيبة: فهو أنْ تقول في أخيك ما هو فيه، وأما الإفك فأنْ تقول فيه ما بلغك عنه، وأما البهتان: فأنْ تقول فيه ما ليس فيه)).
ومن أعظم ما ورد في الزجر عن الغيبة قوله تعالى:
((وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ ((
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: ((وقد ورد فيها (يعني: الغيبة) الزجر الأكبر، ولهذا شبهها تبارك وتعالى بأكل اللحم من الإنسان الميت كما قال عز وجل:
¥