1 - من الاحتمالات القوية جدًّا أن يكون ابن يربوع الإشبيلي نقل ذلك النص عن البخاري عن إحدى روايات التاريخ الكبير التي لم تعتمد في النسخة المطبوعة، والأندلسيون يروون كتاب التاريخ الكبير من ثلاثة طرق عن البخاري [فهرسة ابن خير الإشبيلي، ص204، 205]، هي: رواية محمد بن عبد الرحمن بن الفضل الفسوي، ورواية محمد بن سليمان بن فارس الدلال، ورواية محمد بن سهل بن عبد الله المقرئ، والمطبوع اعتمد في طبعه على عدة نسخ [انظر: التاريخ الكبير: 2/ 398 - 400 و 8/ 456 خاتمة الطبع]، ولم يذكر المحققون له إلا رواية محمد بن سهل [انظر: التاريخ الكبير: 1/ 2، 3].
ومما يؤكد اختلاف نسخ التاريخ الكبير ورواياته أنه في المطبوع ما صورته: «عبد الرحمن بن عائش الحميري» [التاريخ الكبير: 5/ 252] فقط، ووجدت البيهقي يذكر بسنده إلى أبي أحمد محمد بن سليمان بن فارس قال: أخبرنا محمد بن إسماعيل البخاري قال: «عبد الرحمن بن عائش الحضرمي، له حديث واحد إلا أنهم يضطربون فيه» [الأسماء والصفات للبيهقي، ص380]، فهذه الزيادة المهمة وردت في رواية ابن فارس ولم ترد في المطبوع، فإما سقطت من إحدى النسخ، أو من رواية ابن سهل المقرئ، أو يكون البخاري حذفها، ولكن الشاهد أن هناك زيادات وإضافات في روايات أو نسخ التاريخ الكبير .......
وبما تقدم يقوى الظن بأن ما نقله ابن يربوع من كلامٍ للبخاري يكون وجده في رواية من روايات التاريخ الكبير أو في نسخة من نسخِهِ، والرجل كما ذكروا عنه من أهل التحقيق والإتقان والشهرة بالضبط.
2 - رأيت البخاري استعمل مصطلح (الاحتمال) الذي ذكره في كلمته السابقة، فقد قال في ضعفائه الصغير في عبد الله بن أبي لبيد المدني: «وهو محتمل» [الضعفاء الصغير، ص69]، وعبد الملك بن أعين: «يحتمل في الحديث» [السابق، ص76]، وعبد الوهاب بن عطاء الخفاف: «ليس بالقوي عندهم ... وهو محتمل» [السابق، ص80]، ومُحِل بن محرز الضبي: «قال يحيى القطان: لم يكن بذاك، قال ابن عيينة: لم يكن بالحافظ، وهو محتمل» [السابق، ص117]. ووجدته يقول في كتابه (القراءة خلف الإمام) في عبد الرحمن بن إسحاق بن عبد الله المدني: «وليس هو ممن يعتمد على حفظه إذا خالف من ليس بدونه، وكان عبد الرحمن ممن يحتمل في بعض» [جزء القراءة، ص38، 39]، وقد قال عنه أيضًا في العلل الكبير للترمذي: «هو ثقة» [العلل الكبير، ص179]، وقال في التاريخ الكبير: «ربما وهم» [التاريخ الكبير: 5/ 258].
فهذا الاصطلاح يستعمله البخاري، ولا يعني به التوثيق المطلق كما ظهر لنا من النصوص الخمسة السابقة، وإنما يقوله في حق الرجل الذي له أوهام ولا يسقط حديثه ويضعف مطلقًا، وربما كانت قريبة الشبه بمرتبة (صدوق يخطئ)، والله أعلم.
وعلى أية حال، فإن استعمال البخاري للفظة (الاحتمال) مما يدل على أنْ ليس في النص الذي نقله ابن يربوع ما يستنكر أو يخالف منهج البخاري واستعمالاته للمصطلحات.
3 - من خلال اطلاعي على كتاب التاريخ الكبير لاحظت أن نصوص البخاري في تعديل الرواة وتوثيقهم قليلة جدًا، بل نادرة، إذا ما قورنت بنصوصه التي ينتقد فيها الرواة بمثل قوله: «فيه نظر» و «منكر الحديث» و «لا يتابع عليه» و «لم يصح حديثه»، ونحو هذه العبارات النقدية التي فيها طعن وجرح لبعض الرواة.
وكنت قبل أن أطلع على ما نقله ابن يربوع أسائل نفسي: لماذا يكثر البخاري من جرح الرواة، ولا يكاد يوثق في تاريخه الكبير الكثير من ثقات المحدثين ومشاهيرهم؟ فلما وقفت على كلامه تجلى لي منهجه وتبين الأمر.
ولعل في هذه الأمور ما يجعل القلب يركن إلى ثبوت الكلام الذي نقل عن البخاري في بيان منهجه في كتابه التاريخ الكبير.
ويظهر أن قول البخاري: «ومن لم أبين فيه جُرحةً فهو على الاحتمال» يدخل فيه الثقة ومتوسط الحفظ وكل راوٍ ضُعّف ولم يشتد ضعفه، ويوضح الأمر أكثر ويفسر مقصوده أنه قد قال: «كل من لا أعرف صحيح حديثه من سقيمه فلا أروي عنه»، فغير المحتمل عنده من يترك هو الرواية عنه، وكل من تميَّزَ صحيح حديثه من سقيمه فهو يروي عنه، وهو المحتمل عنده فيما يظهر لي.
¥