وتذكر صحابنا ـ والألم والحسرة يكادان يفلقان كبده ـ كم ضاع وقته في تتبع المسابقات الدنيوية في الصحف والقنوات التي أشغلته عن المسابقات الأخروية ... تذكرها وهو يبكي على ما أصيب به من خذلان: كيف أشغل نفسه بمسابقات دنيوية نسبة فوزه بها في أحيان كثيرة تصل إلى الواحد من 500.000 أو أكثر، يبذل فيها جهداً ومالاً ووقتاً، وفي النهاية لا يفوز إلا خمسة أو عشرة أو حتى مئة من ملايين المتسابقين! تذكرها وهو يعاتب نفسه كيف أعرضت عن مسابقات الفوز بها مضمون؟! وأي فوز هو؟ إن جائزة مسابقتنا هي الجنان، ورضا الرحمن، وأنهار، وأشجار، وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون، ونسبة الفوز فيها لمن أخلص وتابع مضمونة 100%!! ولكنه حب الدنيا الذي زاد عن حده، واللهث وراءها!!
وبينما هو جالس في المصلى، التفت صاحبي في مصلى العيد فرأى بعض أصحابه في الاستراحة و الجلسة الليلية الرمضانية ... رآهم في أحسن حُلّة، وأجمل لباس، والابتسامات تتوزع هنا وهناك ...
ولما حوّل بصره إلى ناحية أخرى نظر فإذا جملة من العباد والصالحين في مقدمة الصفوف ممن عرفهم بأنواع الطاعات وأصناف القربان، رآهم والبشر والسرور يطفح على وجوههم، وكأن الواحد منهم ـ لولا خشية إفشاء العمل ـ لقال بلسان حاله: هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِيه .. لقد لبسوا الجديد كما لبسه أصحابه، ولكن شتان بين ابتسامة وابتسامة!! وشتان بين جديد وجديد ... ، هنا، أخذت الأحاسيس تتردد في نفسه، وبدأت الأسئلة تتدفق على ذهنه ... هؤلاء أصحابي الذين أمضيت ما أمضيت معهم من الوقت فيما لا فائدة فيه؛ بل فيما حرَّم الله أحياناً .. على ماذا يبتسمون يا ترى؟! أهم يبتسمون ويضحكون على التخلص من رمضان أم على ماذا؟ أم فرحا بإطلاق العنان لشهوات النفس؟ أم على لبس الجديد أم على ماذا يا ترى؟ وتذكر لحظتها كلمة سمعها في خطبة العيد العام الماضي:" ليس العيد لمن لبس الجديد، ولكنه لمن رضي عنه ربُّ العبيد، وأعتقه من العذاب الشديد ... "
طافت به هذه التساؤلات وهو يقلب طرفه في أولئك الصالحين والعباد وهو يتذكر ما قرأه في بعض الكتب، وهو أن الصالحين يفرحون بالعيد لتمام نعمة الله عليهم ببلوغ الشهر وتمامه، والرجاء يحدوهم من الرب الكريم أن يقبله منهم! وتذكر تلك الكلمة التي سمعها من إمام المسجد، والتي كان الإمام يحيى بن أبي كثير يقولها إذا جاء شهر رمضان: اللهم سلمني لرمضان وسلم لي رمضان، وتسلمه مني مُتقبلا.
خرج صاحبنا من مصلى العيد، وهو يعد نفسه الوعود الصادقة، ويمنيها بالعزمات الأكيدة، ويقول في نفسه: " لئن أحياني الله تعالى إلى رمضان القادم ليَرينَّ اللهُ ما أصنع!! ولأعيشنَّ هذه الفرحة التي عاشها الصالحون العاملون ... "
هذه ـ أخي الحبيب ـ مشاعر نادم على التفريط، جالت في ذهنه وبسرعة وهو في مصلى العيد ينتظر الصلاة مع المسلمين في عيد الفطر الماضي ...
وهي بالتأكيد مشاعر كل مؤمن في قلبه حسٌ وإدراك لفضائل هذا الشهر الكريم، ومناقبه وعظيم منزلته عند الله ..
ودارت الأيام، وأقبل شهر رمضان، وهاهو اليوم ينقل لكم عزمه وتصميمه ـ بإذن الله ـ على استغلال أيام وليالي هذا الشهر المبارك بكل ما يستطيع!.
ومما زاد من عزمه وتصميمه أنه نظر من حوله، فإذا الموت قد أخذ واحداً من أفراد عائلته، وشخصاً من حيهم الذي يسكن فيه، كما أن زميله في العمل أو الدراسة قد وافته هو الآخر منيتُه .. كل ذلك جعله يحمد الله أن أمهله حتى وصل إلى هذا اليوم راجياً من ربه أن يبلغه الشهر الكريم، فقد تقطع قلبه شوقاً إليه ...
وما له لا يشتاق، وهو يسمع فضائله العظيمة، ومناقبه الكبيرة؟ أليس هو شهر القرآن، والرحمة والدعاء، والمغفرة، والرضوان؟!
ما له لا يشتاق، بل لو تقطع قلبه شوقاً لما كان ـ وربي ـ ملوماً، وهو يسمع قول الحبيب صلى الله عليه وسلم يقول: "من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه "؟ "ومن قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه"؟ "ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه"؟
أَيُلام هذا؟! وهو يعلم أن الذي يعده بهذه الكنوز ليس قناة فضائية ولا صحيفة سيارة، بل الذي يعده هو محمد -صلى الله عليه وسلم-؟!.
أًيُلام هذا على شوقه، وهو يسمع حديث المصطفى عليه الصلاة والسلام: "إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين "
لا تلوموه ـ يا أحبة ـ فهو يعلم أن أبواب الجنة ما فتحت، وأن أبواب النار لم تغلق من أجل الملائكة! ولا من أجل الجبال! ولا من أجل الشجر! ولا من أجل الدواب! بل فتحت أبواب الجنة من أجله هو وإخوانه المؤمنين إنسهم وجنهم ...
نعم! من أجله هو من بين مخلوقات السماوات والأرض! ولا أغلقت أبواب النار إلا لأجله هو ... أفَيُلامُ هذا على فرحه وسروره وغبطته وحبوره؟!
من ذا الذي يلومه؟! وهو يسمع قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات" وقد علم أن القرآن ثلاثُمائة ألف حرف تقريباً، أي أنه في الختمة الواحدة له ثلاث ملايين حسنة! وفضل الله أوسع وأعظم ولسنا نعده ولا نحصيه، فإذا ضوعفت الحسنة إلى سبعمائة ضعف، فمن الذي يستطيع عد ذلك؟!.
فنسأل الله تعالى، وهو واسع الفضل والعطاء، ذو المن والجود والكرم والسخاء، نسأله أن يمن علينا وعلى أخينا الكريم باستغلال أيام العمر فيما يرضيه عنا، وأن لا يحرمنا فضله بذنوبنا، ولا نواله بسوء فعالنا، إن ربي لطيف لما يشاء، إنه هو العليم الحكيم.
يا من قرأت هذه الرساله، قد علمت ما في رمضان من فضل وأحسست بندم من فاته الخير الكثير بالتقصير فيه، فأري الله منك خيرا فلعله آخر رمضان لك ...
لفضيلة الشيخ
عمر بن عبدالله المقبل حفظه الله تعالى
منقول من منتدى الحكمة ابتغاء الدعاء لي بالتوبة والمغفرة النجاة والدعاء لأمي بالشفاء