فلقد كثر القول من بعض المعاصرين في التفسير الذي سارت عليه علماء الأمة منذ القديم، ورأوا أن عصر التفسير التحليلي ـ كما يسمونه ـ قد انتهى، وأن العصر بحاجة إلى تجديد الطريقة في عرض التفسير، وقد زعم بعضهم أن التفسير الموضوعي هو الذي يمكنه حلُّ المشكلات، والإجابة عن المعضلات، وأنه الأنسب إلى أسلوب العصر، وهذا ضرب من القول لا برهان له. بل هذا اللون من عرض الآيات والاستنباط منها مما يستفاد منه في المحاضرات والكلمات، والتفسير على الأسلوب المعهود باقٍ لا يمكن إزالته والبعد عنه.
ولا أدري لماذا يذهب من يصل إلى فكرة جديدة إلى نقد السابق أو نقضه لكي يُثبِت حُسْنَ ما عنده؟!
لماذا لا يكون المجدِّدُ في مثل هذه العلوم بانيًا لا هادمًا، ويكون ذاكرًا لما فعله سلفه، مستوعبًا لما قدَّموه مستفيدًا مما طرحوه، ولا يكون ممن يرى إمكانية ترك السابق والإتيان بما لا يمتُّ لهم بصلةٍ؟
لماذا يعرض بعض الباحثين فكرته التي وصل إليها بالتضخيم، والتعميم، وبدعوى أن سلوكها هو الذي ينفع الأمة الآن، وهو المنقذ لها من مشكلاتها وهمومها.
إن هذه النظرة التي قد تصدر من بعض الباحثين من غير قصد = يجب التنبيه عليها، وتصحيحها، كما يجب أن يُعلم أن تصحيحها والاستدراك عليها لا يعني التشنيع على أصحابها وإخراجهم من دائرة البحث العلمي، لكن الأمر يرجع إلى نقطتين:
الأول: انفعالات لا يمكن أن ينفكَّ عنها الناقد حينما يرى مثل هذه الأخطاء التي صارت تسري، ولا يرى من يقاومها، وهذه الانفعالات ردَّةُ فعلٍ على ما يقع من تلك الأخطاء، وكل ذلك راجع إلى الطبيعة البشرية التي فطر الله عليها الإنسان.
الثاني: أنَّ هذه الدعاوى كبيرة، وهي تُلزِم غيرها ـ فضلاً عن نفس طارحها ـ ما لا يلزم، بل قد تقام من أجل ذلك الندوات والمحاضرات، وتكتب الكتب والمقالات، وهي لا تستحقُّ هذا الزخم الهائل، ولو وُضِعت في مقامها لكان أولى.
ومن العجيب أنَّ بعض الأفكار المهمة، لا تلقى مثل هذا الاهتمام، وذلك من سرِّ من قدر الله الذي يقف المسلم بالتسليم.
إن التوازن والاعتدال في الطرح، وفي وضع الموضوعات في مواضعها مما يحسن أن نتناصح فيه، وأن لا يبخل بعضنا على بعض في ذلك؛ لأن من طبيعة البشر أنها إذا اتجهت إلى موضوع لا ترى غيره، وقد يراه غيرك، ويكون أولى مما أنت فيه، وهكذا.
التفسير الموضوعي نموذجًا
رأيت بعض الباحثين يرى أن دراسة القرآن على أسلوب التفسير الموضوعي ضرورة لازمة، ويقول ـ بعد ذكره لطريقة المفسرين السابقين ـ: (ولما كان ذلك كذلك كان السعي إلى منهج أشمل مطلوبًا، وأبلغ حجة، وأبين طريقًا؛ منهج يقضي بالتوقف عن عملية التجزئة في تفسير آيات هذا الكتاب، والاتجاه به اتجاهًا موضوعيًا = ضرورة لازمة).
وقال في موطن آخر: ( ... غاية الأمر أنني أدعو إلى التوقف عن التعامل التجزيئي مع القرآن الكريم، والاتجاه إلى تفسير القرآن تفسيرًا موضوعيًا.
إنني أهدف إلى بيان أن التفسير الموضوعي للقرآن هو الأليق والأنسب والأولى بالاتباع في هذا العصر سواء في ذلك التفسير الذي يعالج وحدة الموضوع في القرآن، أو ذلك الذي يعالج وحدة الموضوع في السورة، وهو الأنسب للتدريس في المؤسسات والمعاهد العلمية ... )
ويقول: (وحينما نقول: إن التفسير الموضوعي يجلي الحقائق القرآنية، ونعلم أن هذه الحقائق هي التي تهيئ فكر المسلم وقلبه للصلاح ندرك حينئذ أهمية التفسير الموضوعي ودوره في إحداث الوثبة الحضارية ... ).
ويقول آخر: ( ... لذا لا يمكن أن نجابه مشاكل العصر ومعطيات الحضارة إلا بأسلوب الدراسات الموضوعية للقرآن الكريم، أو بأسلوب التفسير الموضوعي).
وهذه المقولات من هؤلاء الفضلاء فيها تزيُّدٌ ظاهر، ودعوى عريضة تحتاج إلى برهان قوي، وحجة واضحة، ولو قيل: إن التفسير الموضوعي يمثل لبنة من لبنات معالجة شيء من القضايا والمشكلات بطريقة القرآن = لكان أقرب، لكن أن يكون هذا الأسلوب هو الأسلوب الأمثل، والأولى، فذلك دونه خرط القتاد.
ملحوظات على التفسير الموضوعي
أولاً: إن التفسير الموضوعي يدخل في باب الفوائد والاستنباطات، وليس من التفسير الذي هو بيان معني القرآن.
¥