تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وأفردت الأرض لأن الانتفاع بما يلينا منها دون غيرها (59)، ولمثل هذا التعليل قرائن في الأسلوب القرآني كقوله تعالى مخاطباً (موسى وهرون): (فقولا إنّا رسولُ رب العالمين) (الشعراء: 16) فأفرد على الرغم من أنهما مثنى؛ لأن وظيفتهما واحدة - والله أعلم -، ولأفراد السماء حيناً وجمعها حيناً آخر غاياتٍ أسلوبية، قال تعالى: (أأمنتم من في السماء ... أم أمنتم من في السماء ... ) (الملك 16، 17) فقد أفرد هنا لما كان المراد الوصف الشامل والفوق المطلق ولم يرد سماء مخصوصة وكذلك في قوله تعالى: (فورب السماء والأرض إنه لحق ... ) (الذاريات: 23) إرادة لهذين الجنسين أي ربّ كل ما علا وكل ما سفل فلما كان المراد عموم ربوبيته أتى بالاسم الشامل لكل ما يُسمى سماء وكل ما يُسمى أرضاً (60)، والواحد إذا أريد به الجنس كان أعم من الجمع (61) لذلك لم تجيء في سياق الأخبار بنزول الماء من السماء إلا مفردةً حيث وقعت لما لم يكن المراد نزوله من ذات السماء بنفسها بل المراد الوصف، وكذلك قوله تعالى: (وفي السماء رزقكم وما توعدون)، أي: من سماء واحدة لا عامة السموات (62)، وبهذا ندرك دقة ما قاله العلوي: (إن الألفاظ على وجهين في استعمالها مفردة، أحدهما: أن تكون فصيحة مستعملة في كل أحوالها في الأفراد والتثنية والجمع والتذكير والتأنيث ...

وثانيهما: أن تكون أحوالها مختلفة بالإضافة إلى استعمالاتها ... ) (63) وقد تنبه المحدثون إلى هذا ولعل أشهر من أكد هذا المعنى (الرافعي) (64) وإن سيطرت على تعليلاته الدقيقة فكرة الجِرْس غالباً في حين تنبه غيره إلى استخدام وتفريقٍ خاصٍ بالمفردة والجمع خاصةً عند التقابل الدلالي كما في لفظتي (النور) و (الظلام) فلم ترد لفظة النور مجموعة في القرآن ولم تأتِ لفظة الظلام مفردةً معها قال تعالى: ( ... ليخرجكم من الظلمات إلى النور) (الحديد: 9) وقال تعالى: ( ... يريدوا ليطفئوا نور الله بأفواههم) (الصف: 8) وقال تعالى: (ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور) (الطلاق: 11) (65)، فلم يجمع (نور) في القرآن على (أنوار) أي: أنه تعالى يخرج المؤمنين من الظلمات إلى النور لا إلى الأنوار مع أن السياق يتطلب الجمع للمقابلة، وحكمة ذلك كما يقول السيد رشيد رضا: إن النور شيءٌ واحد وإن تعددت مصادره، ولكنه يكون قوياً ويكون ضعيفاً، وأما الظلمة فهي تحدث بما يحجب النور من الأجسام غير النيرة وهي كثيرة جداً.

وكذلك النور المعنوي شيءٌ واحدٌ ... فالحق واحد لا يتعدد والباطل الذي يقابله كثير (66)، وقد أوضح الشعراوي ذلك فقال: إن في الدنيا ظلمات كثيرة ولكن ليس هناك أنوار، هناك نور واحد هو نور الله سبحانه وتعالى نور الحق؛ لذلك لا يستخدم الله سبحانه وتعالى إلا كلمة نور لأن النور هو نور الحق ولا نور غيره (67)، ويبدو أن كلاهما قد أفادا مما قاله ابن القيم (وجَمَعَ الظلمات وهي طرق الظلال والغي لكثرتها واختلافها ووحّد النور وهو دينه الحق .. الذي لا طريق سواه) (68).

وقد استخدم مثل هذا دون تقابل دلالي كاستخدام لفظة (الريح) و (الرياح) فلفظة (الريح) لم ترد إلا في سياق الشر والعقوبة كما لم ترد لفظة (الرياح) إلا في سياق الخير قال تعالى: (وفي عادٍ إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم ما تذر من شيءٍ أتت عليه إلا جعلته كالرميم) (الذاريات: 41) وقال تعالى: (إنا أرسلنا عليهم ريحاً صرصراً في يوم نحسٍ مستمر) (القمر: 19) (69)، ولعل السبب في ذلك أن ريح الشر تهب مدمرة عاصفة لا تهدأ ولا تدع الناس يهدءون فهي لاستمرارها ريح واحدة لا يشعر الناس فيها بتحول ولا تغيير ولا يحسون بهدوء يلم بها فهي متصلة في عصفها وشدة تحطيمها وذلك هو مصدر الرهبة منها والفزع أما الرياح تحمل الخير فتهب حيناً وتهدأ حيناً لتسمح للسحب أن تمطر فهي متقطعة تهبّ في هدوءٍ ويشعر المرء فيها بفترات سكون وأنها رياح متتابعة وهي في تعبير القرآن هذا مصورة للإحساس النفسي (70)، والدليل على ذلك كما يقول أحمد بدوي أنّ القرآن أفرد ولمّرةٍ واحدة لفظة (الرياح) في موضع الخير والأنعام في قوله تعالى: (حتى إذا كنتم في البحر وجرينَ بهم في ريحٍ طيبة) (يونس:22) ذلك أن (إفراد الريح مع

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير