قالَ ابن القيِّم (ت: 751): (وتفسيرُ النَّاسِ يدورُ على ثلاثةِ أصولٍ:
تفسيرٌ على اللَّفظِ، وهو الَّذي ينحو إليه المتأخِّرونَ.
وتفسيرٌ على المعنى، وهو الَّذي يذكرُهُ السَّلفُ.
وتفسيرٌ على الإشارةِ والقياسِ، وهو الَّذي ينحو إليه كثيرٌ من الصُّوفيَّةِ وغيرِهم). [2]
والتفسير على القياس موجودٌ في تفسيرِ السلفِ؛ لكنَّه أقلُّ من القسمين الآخَرين. ومن أمثلتِه، ما ورد في قوله تعالى: (فَلَمَّا زَاغُوا أزَاغَ الله) الصف: 5، أنها نزلتْ في الخوارجِ. [3]
فالمفسِّر انتزع هذا المقطع من الآيةِ، ونزَّله على الخوارجِ الذين لم يكونوا عند نزولِ هذه الآياتِ، وإنما جاءوا بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وانقطاع الوحي، وإذا نظرتَ إلى سياقِ الآيةِ، وجدتَ أنه في الحديثِ عن بني إسرائيل، وأنهم هم الموصوفون بهذا الوصف، قال الله تعالى: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) الصف: 5
والمفسِّرُ هنا إنما أراد أنْ يُنبِّه إلى دخولِ الخوارجِ في حكمِ هذه المقطع من الآيةِ، وأنهم مثالٌ لقومٍ مالوا عن الحقِّ، فأمالَ اللهُ قلوبهم جزاءً وفاقاً لميلِهم، وتنْزيل ذلك المقطع من الآية على الخوارجِ إنما هو على سبيلِ القياسِ بأمرِ بني إسرائيلَ، وليس مراده أنهم هم سبب نزولها، فهذا لا يقول به عاقل.
وعلى هذا يُقاسُ ما وردَ عن السلفِ في حكايةِ نزولِ بعض الآياتِ في أهلِ البدعِ، وأنهم أرادوا التنبيه على دخولهم في حكم الآيةِ، لا أنهم هم المعنيون بها دون غيرهم، خاصةً إذا كانَ المذكورون غيرُ موجودينَ في وقتِ التنْزيل؛ كأهلِ البدعِ الذينَ نُزِّلتْ عليهم بعضُ الآياتِ، واللهُ أعلمُ.
قال الشاطبي: (…كما قاله القاضي إسماعيل ـ في قوله تعالى: (إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيءٍ) الأنعام: 159 بعد ما حكى أنها نزلت في الخوارج ـ: وكأنَّ القائل بالتخصيص، والله أعلم،لم يقل به بالقصد الأول، بل أتى بمثالٍ مما تتضمنه الآية؛ كالمثال المذكور، فإنه موافق لما قال، مشتهراً (كذا) في ذلك الزمان، فهو أولى ما يمثل به، ويبقى ما عداه مسكوتاً عن ذكره عند القائل به، ولو سئل عن العموم لقال به.
وهكذا كل ما تقدم من الأقوال الخاصة ببعض أهل البدع، إنما تحصل على التفسير، ألا ترى أن الآية الأولى من سورة آل عمران إنما نزلت في قصة نصارى نجران؟! ثمَّ نُزِّلت على الخوارج، حسبما تقدم، إلى غير ذلك مما يذكر في التفسير، إنما يحملونه على ما يشمله الموضع بحسب الحاجة الحاضرة لا حسب ما يقتضيه اللفظ لغةً.
وهكذا ينبغي أن تفهم أقوال المفسرين المتقدمين، وهو الأولَى لمناصبهم في العلم، ومراتبهم في فهم الكتاب والسنة). [4]
وفي قوله تعالى: (وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) الأنفال: 71 قال ابن عطيَّةَ (ت: 542): (وأما تفسير الآية بقصة عبد الله بن أبي السرح، فينبغي أن يُحرَّرَ، فإن جُلبتْ قصةُ عبد الله بن أبي السرح على أنها مثالٌ، كما يمكن أن تُجْلَبَ أمثلةٌ في عصرنا من ذلك، فحسنٌ. وإن جُلبت على أنَّ الآية نزلت في ذلك، فخطاٌ؛ لأنَّ ابن أبي السرحِ إنما تبيَّن أمره في يوم فتح مكة، وهذه الآية نزلت عَقِيبَ بدرٍ). [5]
وفي قوله تعالى: (فَأَمَّا الْأِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ) الفجر: 15 ـ 20
قال ابن عطية (ت: 542): (ذكر الله تعالى في هذه الآية ما كانت قريش تقوله وتستدلُّ به على إكرام الله تعالى وإهانته لعبده، وذلك أنهم كانوا يرون أن من عنده الغنى والثروة والأولاد، فهو المُكرَم، وبضدِّه المهانُ.
¥